: آخر تحديث

جَردة حساب ما بعد الحرب

4
4
4

كان لا بد للحرب أن تضع أوزارها بين إسرائيل وإيران، وكان لا بد أن يأتي وقت تهدأ فيه جبهات القتال بين البلدين، ومن الجائز أن يجري استئناف الحرب بينهما في وقت لاحق ولكن بأدوات أخرى، فالحروب بين الدول ليس من الضروري أن تكون بالرصاص والقنابل، وليس سراً أن السلام في حقيقته حرب ولكنها بأساليب مختلفة.

توقفت الضربات المتبادلة بالمُسيرات وبغيرها بين الطرفين وكان لا بد أن تتوقف، وصار على كل طرف منهما أن يعتبر مما حصل طوال 12 يوماً هي زمن الحرب، وسيكون على الحكومة الإيرانية أن تبادر بينها وبين نفسها إلى ما يقال عنه إنه «جردة حساب»، والمعنى أن تجلس لترى ماذا كان في أيام الحرب؟ وماذا سيكون عليها أن تلتفت إليه فيما بعد الحرب؟ ثم الأهم ماذا كشفت عنه الضربات المتبادلة حين أطلقتها تل أبيب في 13 من هذا الشهر؟

مما سوف تكشف عنه جردة الحساب للحكومة الإيرانية، أن دول الخليج كانت في مقدمة الدول التي وقفت ضد الحرب، وضد الضربات التي بدأتها إسرائيل، وأن هذا الموقف كان جامعاً بين دول الخليج الست، فلم تبادر إليه دولة وتتخلف عنه أخرى. وإذا شاءت طهران فسوف يكون عليها أن تعود إلى اجتماع مجلس التعاون على مستوى وزراء خارجيته يوم 16 من الشهر الجاري، فلقد انعقد الاجتماع بعد أيام قليلة من توجيه الضربة الإسرائيلية إلى إيران، وكان اجتماعاً بتقنية الاتصال المرئي، وخرج عنه بيان يرفض الاعتداء على إيران، ويرى فيه انتهاكاً لسيادتها واعتداءً على أرضها، ويدعو إلى وقف العدوان على الفور، ثم يُدين الاعتداء إدانةً جماعية.

هذا كلام منشور في كل وسائل الإعلام، وقد كان في مقدور مجلس التعاون أن ينتظر ليرى ماذا ستنجلي عنه الأمور، أو كان في إمكانه أن يتريث ليتمكن من الانعقاد حضورياً لا بتقنية الاتصال المرئي، ولو فعل هذا ما كان أحد سوف يلومه، ولكنه سارع إلى الانعقاد، وإلى إصدار الإدانة الجماعية التي تعني أن الدول الست موقفها واحد.

سوف يكون على الحكومة في طهران أن ترى هذا، وسوف يكون عليها أن تنتبه إلى أن الدول الست لم تتوقف عند حدود ما صدر عن المجلس، ولكن يوماً بعد يوم، انعقاد المجلس لم يكن يمر إلا وتكون فيه حركة سياسية في الرياض وفي بقية عواصم الدول الست، وكانت الحركة في كل حالاتها تعيد تأكيد ما سبق به المجلس، وترى أن حرباً كهذه لا بديل عن أن تتوقف، وأن الضربات التي بدأتها إسرائيل لا بد أن تكون لها نهاية في أقرب وقت.

سوف ترى طهران هذا كله مُسجلاً وموثقاً بالكلمة والصورة، وسوف ترى وهي تراجع أو تستعيد ما كان في زمن مضى، أن الدول الست كانت تلفت انتباه الحكومة الإيرانية طول الوقت، إلى أن الجغرافيا قد حكمت بالجوار بين الخليجيين والإيرانيين، وكانت تعمل ما من شأنه أن يشير إلى أن مبادئ حُسن الجوار مرعيّة من ناحيتها، وأنها لا تفكر ولا تخطط للإضرار بإيران، وأن على طهران أن تستدعي في المقابل مبدأ دبلوماسياً مستقراً بين الدول اسمه: المعاملة بالمثل.

هذه واحدة. والأخرى أن الحكومة الإيرانية سوف تكتشف وهي تقوم بجردة الحساب إياها، أن استثمارها في أذرعها الإقليمية المعروفة كان في غير محله. كان في غير محله لسببين؛ أولهما أن هذه الأذرع لم تنفعها في شيء عندما بدأت إسرائيل هجومها، ولا عندما استهدفت الولايات المتحدة الأميركية ثلاث منشآت من منشآت إيران النووية، ففي الحالتين أبلغت الأذرع عن غيابٍ غير مفهوم في الجانب الأكبر منه. قد يكون بعض هذه الأذرع أصابته تداعيات هجوم الأقصى، وقد يكون معذوراً في غيابه بالتالي، ولكن ما عذر الأذرع التي لم يصبها شيء من تداعيات هجوم الأقصى، ومع ذلك غابت وأمعنت في الغياب؟

والسبب الآخر خطأ الاستثمار في الأذرع الإقليمية، أنها أضرت أكثر مما نفعت، وأنها أثارت من الخصومات والعداوات بين إيران ودول الجوار أكثر مما بَنَت من الصداقات. ولهذا كان الاستثمار فيها استثماراً في غير مكانه، ولو خرجت إيران بدرس كهذا من مجمل أيام الحرب، فسوف يكون من الدروس الكافية.

لقد راحت إيران تتلفت حولها فلا تقع على فاعلية لذراع واحدة من تلك الأذرع، وبَدَت في موقفها أقرب ما تكون إلى الموكل الذي يذهب إلى القضاء في أمر يخصه فيخسر الفلوس والقضية. يحدث هذا عندما يختار أحدهم محامياً ليس هو الذي يستطيع الدفاع عن القضية المعروضة. يختاره الموكل ويدفع له ما يطلب، ثم يُفاجأ بأنه خسر ليس فقط ما دفع من أموال للمحامي، ولكنه خسر معها القضية أيضاً، وهذا درس آخر سوف يكون بين دروس جردة حساب ما بعد الحرب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد