لم أجد في حياتي مدرسة تهذّب وتربّي، وتلقّننا دروسًا لا تُنسى كما تفعل الحياة. كل تجربة تمرّ بنا تترك أثرًا، وكل درس يخلّف وشمًا على ملامحنا، لا يُمحى. فالحياة لا تعلّمنا بالعناوين، بل بالتفاصيل، ولا تمنحنا الحكمة دفعةً واحدة، بل تسكبها على مهل، من خلال كل موقف وكل درب نخوضه، حتى نُتقن فنّ المواجهة، ونتعلّم كيف نعبُر بخفة وعمق.
وفي حياتي، تعلّمت ألا أستبق الأحداث، بل أمنحها وقتها الكافي لتكشف عن ذاتها بحكمة وإنصات. وتعلّمت ألا أصدّق كل قول، ما لم يكن خلفه فعلٌ يصدّق معناه ويثبت صدقه، يظن بعضهم أن السعادة ملك خاص له، يعيشها وفقًا لرغباته، دون أن يدرك أنه جزء من منظومة الحياة، حيث لا يحق له أن يقيد الآخرين بحساباته الشخصية. في سعيه لتلبية أهوائه، ينسى أن للآخرين حقًا في الحياة والمشاركة، فيعيشون في ظله وكأنهم مجرد أدوات للاستقبال، يلقون الأفعال بكل جحود، يعتقد أن لديه الحق في أن يسلبنا القدرة على الفعل، وكأننا لا نملك إلا أن نكون مُستقبِلين لقراراته وأفعاله، بلا خيار أو رأي. ولكن في هذا الواقع المشوه، يظل لكل فرد الحق في أن يملك زمام اختياراته، وأن يعيش وجوده بحرية وكرامة، ولعل أقسى أنواع الظلم أن يُجبر الإنسان على أن يعيش بلا مضمون، بلا هدف، بلا هوية، أن يُنزع منه حق القرار، ويتحكم فيه دون أن يُمنح الفرصة ليختار ما يشعر به وما يرغب فيه. يرضخ لأهواء الآخرين، فيُحتفظ به طالما كان مفيدًا لهم، لكن في لحظة تمرده، يصبح عدوًا، عندها تُشنّ عليه الحرب بأبشع صورها، ويُعامل وكأنه سيمحي وجودهم، لكن ما لا يدركونه هو أن الحرب التي يخوضها الإنسان في هذه اللحظة هي مع نفسه، مع حقه في أن يكون حرًا، في أن يمتلك قراره، وفي أن يعيش بسلام. سلامٌ على الدنيا إذا رضينا أن نعيشها بذل، سلامٌ على وجودنا إذا كان بلا روح ولا قضية، سلامٌ على أنفاسنا إذا اختنقت وسُلب منها حق النفس تحت وطأة الظلم. فالمعركة الحقيقية ليست ضد من يقيدنا، بل ضد أنفسنا إذا استسلمنا، وضد اللحظة التي نسمح فيها بأن تُسرق منا أرواحنا تحت مسمى السلام الزائف، لا بد أن يدرك الإنسان أن قوة حريته تكمن في قدرته على الوقوف أمام الظلم، على رفض الاستسلام للظروف التي تحاول كسره. فالحياة ليست مجرد تقبل للألم، بل هي فرصة لاكتشاف القوة الكامنة فينا، تلك التي تظهر عندما نقرر أن نعيش بقيمتنا، دون أن نتنازل عنها أو نبيعها. ومن هنا تبدأ رحلة التحرر من الخوف، من الذل، ومن الشروط التي تفرضها الأهواء البشرية.
إن الإنسان الذي يرفض أن يكون تابعًا هو الذي يصبح حُرًا في أفعاله، في خياراته، وفي طريقه، وهو الذي ينتزع حقوقه من مخالب النسور ويعيد صياغة وجوده كما ينبغي وكما يجب.