: آخر تحديث

ما البديل أمام «حزب الله»؟

3
3
3

فجر الجمعة الفائت، دخلت المنطقة منعطفاً خطيراً مع الضربة الإسرائيلية المباشرة التي طالت المنشآت النووية في عمق إيران والرد الإيراني عليها. من المبكر التعليق على نتائج هذه العملية التي قد تفتح الباب أمام مواجهة إقليمية مفتوحة تتجاوز طبيعة «النزاع المنضبط»، وتضع كل ساحات النفوذ الإيراني، ومنها لبنان، في دائرة الاشتعال المباشر أو التوظيف السياسي المكثّف.

قبل 13 يونيو (حزيران) كان يمكن اعتبار الاستفزازات والأعمال العدائية المتكررة ضد القوات الدولية (اليونيفيل) المنتشرة في جنوب لبنان بموجب القرار 425 لعام 1978، مجرد رسائل ظرفية أو أدوات تفاوضية في يد طهران تُنفّذ عبر «حزب الله». فهذه القوات المولجة بثلاث مهام رئيسية: التحقق من الانسحاب الإسرائيلي، واستعادة السلام والأمن الدوليين، ومساعدة الدولة اللبنانية على بسط سلطتها في الجنوب؛ باتت هدفاً متكرراً لهجمات «صبيانية» تُنسب شكلياً إلى «الأهالي»، وهذا مستبعد بالنظر إلى الفوائد الاقتصادية والأمنية والسياسية لوجودها؛ إذ إنها لعبة إيرانية مألوفة: شراء الوقت والمراوغة عبر افتعال أزمات جانبية لم تنجح في تأجيل استحقاقات كبرى.

لكن اليوم، تغيّرت المعادلة. الحرب الإسرائيلية على إيران قلبت المشهد رأساً على عقب، وبدّلت وظيفة سلاح «حزب الله» من أداة ردع إقليمي بحسبه إلى عبء داخلي مستنفد؛ إذ لم يعد لهذا السلاح جدوى فعلية في حماية إيران كما يتبين، ولا هو قادر على ردع إسرائيل. ومن هنا، يُطرح السؤال الجوهري: ما البديل أمام الحزب وإيران؟

الحزب ورعاته يعرفون أن تجرّع كأس سم نزع السلاح لا مفرّ منه، وبخاصة بعد التطورات الأخيرة وتداعياتها المرتقبة عليه، لذلك يحاولون الحصاد في السياسة. الأرجح يتمثّل في التحوّل إلى سيناريو جديد: الانتقال من التمسك بشرعية السلاح إلى شرعية التمثيل الحصري للطائفة الشيعية عبر صناديق الاقتراع، بما يحصّنه داخلياً ويمنحه هامش مناورة أكبر خارجياً. وهو ما تعززه المعطيات الداخلية؛ إذ تشير المؤشرات إلى سعي الحزب لإعادة تنظيم قواعده وتعبئة مناصريه استعداداً للانتخابات التشريعية المقبلة. الهدف: تجديد شرعيته من خلال الغلبة السياسية، وتكريس موقعه باعتباره قوة «شرعية» مهيمنة، تمسك بمفاصل القرار من داخل المؤسسات، لا من خارجها فقط؛ وبخاصة إذا جرت الانتخابات بمناخ سياسي يحاكي الحال الحاضرة، وهو الأمر الأكثر رجحاناً.

هذا التحوّل لا يعني التخلي عن السلاح فوراً، بل الإبقاء عليه بوصفه ورقة احتياطية تفاوضية، بينما تُمارس السلطة باسم «الشرعية الانتخابية». وهنا تكمن خطورة هذا السيناريو، بأبعاده الثلاثية، أولها ترسيخ آيديولوجيا مذهبية راديكالية، تسعى لتحويل الطائفة الشيعية من مكوّن وطني إلى كيان حزبي مغلق، يدين بالولاء لمرجعية الولي الفقيه. ثانيها، تجويف النظام الديمقراطي التعددي في لبنان عبر اختزال طائفة بأكملها بحزب واحد، ما يحوّل الديمقراطية إلى واجهة لنظام طائفي شمولي مُقنّع. وثالثها، تعطيل الدولة باسم حماية الطائفة، وعرقلة أي إصلاح دستوري أو اقتصادي أو إداري لا يخدم أجندة الحزب، ما يعيد إنتاج مأزق النظام اللبناني ويبدد ما بقي من مكتسبات اتفاق الطائف.

ما نشهده اليوم ليس مجرد تحّول سياسي، بل هجمة استراتيجية على الدولة اللبنانية التي لا يجوز الاستهانة بما يواجهها من ضغوط شديدة: أميركا وإسرائيل من جهة، وتعقيدات العلاقة مع «حزب الله» وبيئته والقوى السياسية المناهضة له من جهة ثانية، والتداعيات المرتقبة للحرب بين إيران وإسرائيل من جهة ثالثة، والتي يصعب التكهن بمآلاتها. يضاف إليها سيناريو غزة، الذي قد لا ينتهي ما لم تتخلَّ «حماس» عن سيطرتها على القطاع، وفي حال تحقق ذلك، سيكون لبنان هو المساحة الوحيدة المتاحة أمام إيران للحفاظ على بنية مسلحة منظمة.

أمام هذا الواقع، النيات الحسنة والمواقف الكلامية لم تعد تكفي. لا بد من الإفادة من الفرصة المزدوجة المتاحة اليوم: أولاً، ما تبقى من مظلة التضامن العربي والدولي، وثانياً، تداعيات العملية العسكرية الإسرائيلية على حلفاء إيران، لا سيما «حزب الله». وفي هذا السياق، يمكن الاقتداء بالموقف الجريء الذي اتخذه الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي تعاني بلاده، كما لبنان، من تحدي السلاح غير الشرعي، حين خاطب القوى العربية المعتدلة والولايات المتحدة بوضوح، مدركاً أن إنقاذ بلاده يمر عبر التحالف مع القوى العقلانية، لا عبر مواصلة الارتهان لمحور مأزوم.

التطور النوعي المتمثّل في شنّ إسرائيل ضربة مباشرة لإيران يعيد رسم خريطة التهديدات في المنطقة، ويُسقط ورقة التوت عن كثير من التحركات «المموّهة». فجنوب لبنان، الذي طالما استخدمته طهران باعتباره ورقة تفاوض عبر «حزب الله»، مرشح الآن للتحول إلى ساحة تصعيد متقدمة. الاعتداءات على «اليونيفيل»، التي بدت كأدوات تفاوضية، قد تتخذ طابعاً أكثر راديكالية في ظل الحرب المفتوحة، ما يضع لبنان أمام سيناريو أكثر سوداوية: الانزلاق إلى صراع لا يملك أدوات التأثير فيه، لكنه يتحمل تكلفته بالكامل.

السكوت عن هذه المؤشرات اليوم، هو تهيئة لأزمة وطنية كبرى غداً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد