: آخر تحديث

يوم رحت أبحث عن موسى الصدر

5
4
5

عدت من رحلتي مع الشيخ عبد الله العلايلي إلى الديار المقدسة منهك القوى. كانت رحلة طويلة، زرنا فيها بيت الله الحرام، وقطعنا المفاوز والقفار والفيافي الواسعة. من هذه الرحلة المثيرة، أذكر ليلة صافية الأديم، أوقفت فيها ناقتي، وأوقف الشيخ ناقته، وجلسنا تحت نخلة في قلب الصحراء نتبادل أطراف الحديث. سألت الشيخ العلايلي رأيه في السيد موسى الصدر فقال لي: "لا بد أن تجتمع بهذا الرجل، إنه من أخيار الناس وأطيبهم سريرة، ومن أفاضل الصالحين". عند عودتي إلى بيروت، التقيت صديقي حسين، وكان قد عاد من أميركا إلى لبنان، وبدأ يعمل مستشاراً للسيد موسى. أخبرته عن رحلتي مع الشيخ عبد الله، ونقلت له ما قاله عن السيد. صارحته برغبتي في لقاء الإمام الصدر الذي ذاع صيته في الآفاق، وبأن في رأسي أسئلة أود أن أطرحها عليه، تتعلق بشؤون الدنيا، بالوجود والموت، وما بعد الموت. 

كانت بيني وبين الدكتور حسين صداقة عمرتها الأيام، جلسات طويلة خصبة كثيراً ما طرحنا فيها مثل هذه الأسئلة، مسترشدين بالعقل، وعلى مبدأ ابن رشد القائل "التساؤل هو أساس المعرفة". حدثني الدكتور حسين كثيراً عن السيد موسى، وكان يكن له محبة لا تُوصف. أذكر أنه قال لي ذات مرة:" إذا قدر لك وقابلت الإمام يوما فسوف تسمع منه كلاماً شبيها بكلام القديسين. إنه رجل لا ينطق عن الهوى". سألته أن يدلني على مكان السيد في بيروت، فقال لي إنه ترك العاصمة إلى بعلبك.  قلت في نفسي، سوف أغتنمها فرصة وأذهب إليه. في اليوم التالي أوقفت سيارة أجرة، كان سائقها رجلا مسناً من مرتفعات "الشوف"، ينطق القاف مفخمة، وكنت خلال الطريق أناديه بالشيخ، تماشيا مع عادة اللبنانيين في مخاطبة كبار السن القادمين من تلك الجبال.

من نافذة السيارة، بدت لي قرى لبنان وبلداته مثل لوحة طبيعية صورها فنان بارع، وحمدت العناية أن لنا وطناً جميلاً إلى هذا الحد، وأني ولدت في هذه البقعة الساحرة من بقاع الأرض. لقتل رتابة الصمت، بدأت أتحدث مع الشيخ، وحين علم أنني لست من سكان بعلبك، سألني عن الغرض من ذهابي إلى تلك المدينة، أجبته بأنني ذاهب لمقابلة السيد موسى الصدر. مرت لحظات من الصمت، ثم سألني ما إذا سبق وقابلت السيد، وحين أجبته بالنفي قال: "هل لديك مانع إذا رافقتك في هذه الزيارة؟  أريد أن اجلس مع السيد دقائق معدودة أطرح عليه سؤالاً في أمر ُمعّين". قلت له: "على الرحب والسعة، وآمل أن نتمكن معاً من رؤية الإمام والتحدث إليه، فهو رجل يلتف الناس حوله ويحيطون به من كل جانب".

لا أذكر كم من الوقت استغرقت رحلتنا بين بيروت وبعلبك. كنت طوال الرحلة شارد الذهن، تغمرني أفكار وأسئلة كثيرة، تدور في رأسي كما تدور الحمى في رأس المريض، وحين أتذكرها اليوم، أشعر كما لو أنها كانت بلمح البصر. كل ما أذكره أن الشيخ توقف في الطريق العام، في بلدة صوفر، وشرب من عين ماء نابعة من خاصرة الجبل. عندما وصلنا إلى بعلبك، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد الظهر. جلسنا في مقهى صغير، وشربنا القهوة، ثم سألنا صاحب المقهى إذا كان يعرف الدار التي فيها السيد موسى. أشار إلى مكان بالقرب من القلعة، وقال إنه نزل ضيفا على "العم ملحم". ذهبنا إلى دار "العم ملحم"، وكانت كبيرة تظللها أشجار كثيفة. قرعنا الجرس، وفُتح لنا باب عال وأمامه شابان في مقتبل العمر. سألناهما عن العم ملحم، وعن السيد موسى الصدر، فأخبرانا أن صاحب الدار خرج ولن يعود قبل المساء، وأن السيد موسى غادر قبل نحو ساعتين عائدا إلى بيروت، ليسافر بعدها إلى مدينة "قونية" في تركيا. حزنت كثيراً وشعرت بخيبة أمل. التفت إلى السائق العجوز فإذا بعينيه تلمعان من الدمع! عدنا أدراجنا إلى بيروت، وعند وصولنا قلت له إنني سأسافر إلى تركيا للبحث عن السيد موسى. لم يرد أن يأخذ أجرة الرحلة، ولم يأخذها إلا بعد أن ألححت عليه بشدة. عرضت عليه أن يأخذ مبلغاً إضافيا فوق ما اتفقنا عليه من أجر، فرفض رفضاً قاطعاً. ضمني إليه بذراعين شعرت لحظتها بشيء من وهج الأبوة، طبع قبلة على جبيني وقال: "سر على بركة الله يا ابني، وأدعو الله أن يجمعك بالإمام في وقت قريب".

ودعت السائق العجوز، وفاتني أن أسأله عن السؤال الذي كان يريد أن يطرحه على السيد موسى. اشتريت بعض الأمتعة، وأنا أهيئ نفسي للرحيل إلى تركيا في اليوم التالي. كان ذلك في أواخر الصيف، وطيور أيلول تسرح فوق بحر بيروت، تبشر بقدوم الخريف. ٍاتصلت بالدكتور حسين فاعتذر بشدة، لأنه لم يكن يعلم أن السيد موسى ترك بعلبك وسافر إلى تركيا، أجرى بعدها اتصالاته، وحين تأكد له أن الإمام نزل ضيفا على شمس الدين التبريزي في "قونية" التفت إليّ وقال: "هذه المرة لن يضيع السيد منك، ولن تضيع منه، فالجميع هناك يعرف مولانا شمس الدين التبريزي وبيته. إنه كبير فقهاء المدينة وعلمائها، وأكبر متصوف فيها، ولقاؤك به وبالسيد موسى، سيكون أجمل لقاء في حياتك". 

وصلت إلى "قونية" ليلا، وأويت إلى فراشي في فندق متواضع، إذ لم يكن في جيبي إلا القليل من المال. عند الصباح، أفقت على صوت يقول: "إنها الحرب، وها هي قد وقعت، وقانا الله شرها وشر من أشعلها". قلت: "بين من ومن وقعت الحرب يا أمي". أجابتني وفي صوتها مرارة: "بين أحزاب لا تعرف الله يا ابني"! ربتت على رأسي بحنان، كما لو كنت بعد ذاك الطفل الذي كان يوماً بين يديها وقالت: "قم يا ابني وتناول فطورك، فقد حان موعد ذهابك إلى المطار، وأريدك أن تسافر اليوم قبل الغد، فقد ضاق صدري، والله وحده يعلم ما يخبئه الغد لبلدنا من أهوال"! 

ودعت المرأة التي ولدتني، أمام مدخل بيتنا القديم في بيروت، شاقاً طريقي إلى بلاد جديدة سأولد فيها من جديد، في رحلة لم تردها أمي، ولم أردها أنا، لكن أرادتها الحرب. ركبت في الطائرة، تاركا ورائي وطنا بدأ ينزف، وخيالات مدينة اسمها "قونية"، وأطياف وجهين لم تكتمل صورتهما في المنام!   


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد