: آخر تحديث

الحرب والسلام

4
4
3

 

حين نقرأ العنوان، يتبادر إلى أذهاننا عمل أدبي ضخم للروائي العالمي الروسي ليو تولستوي، والعمل هو رواية الحرب والسلام، ولا بأس لو أسهبنا بالحديث عنها قليلاً، فهي عمل أدبي يتحدث عن الحرب النابوليونية على روسيا في أوائل القرن التاسع عشر، حيث هُزم فيها القائد الفرنسي نابليون بونابرت، لأسباب كثيرة منها أسباب مناخية وإستراتيجية، واستطاع تولستوي بأسلوبه الفذ وصف المجتمع الروسي من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والفلسفية، حتى احتار النقاد في تصنيف العمل السردي الضخم، الذي لم يخل من السياسة بطبيعة الحال.

ونخطئ حين نتحدث ببساطة عن موضوعيّ أو فعليّ الحرب والسلام، والقول إن الحرب تدمر والسلام يبني، لأنها أعقد بكثير، فماذا سيستفيد نصف مليون ضحية من هذا الكلام الإنشائي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؟، وماذا سيفيد اليتامى والأرامل والمعاقين الحديث بلغة البيان؟. بل إن هؤلاء لن يستفيدوا من

ليو تولستوي نفسه، حين أخذ بالحديث بلغة الفلاسفة القدريين، إذ اعتقد كما عبّر في مقدّمة روايته التي كتبها، أي المقدمة، بعد النقاشات التي دارت حول الرواية، بوجود شكل من أشكال الحتمية القدرية، فنابليون وألكسندر لم يملكا من أمرهما شيئاً: «إذ على الرغم من أن تصرفاتهما بدت لهما ناجمة عن محض اختيارهما، فليس بينهما واحد مخيّر بالمعنى التاريخي للكلمة، بل كلّ منهما مرتبط بسير التاريخ العام ومعيّن منذ الأزل..». 

ولا أعتقد أن تولستوي يعفي القادة المسؤولين عن الحروب من المسؤولية التاريخية والاجتماعية والإنسانية، لأنه لو استكان لذاك المفهوم، لما كتب روايته التي تحدثت عن المجتمع الروسي في ظل الحرب الدموية، وفيها يزيل القداسة والهالة والعظمة عن قائدي البلدين نابليون وألكسندر، عن طريق تصويرهما في أوضاع يمارسها الإنسان العادي، وهو الواقع الحقيقي والتصوير الحقيقي للقادة، الذين يحتفظون بصور في مخيلة الناس، كما الأدباء العظام، بينما لو 

تتبعنا الحياة الشخصية الخاصة لهؤلاء القادة الذين افتعلوا الحروب وهؤلاء الأدباء، لوجدنا صوراً قد تؤثر في مستوى الإعجاب، ما يعني أنهم عرضة لارتكاب الأخطاء، والأخطاء الكبيرة مثل قرارات الحرب.

إن ما يقلق العقلية البشرية النظيفة، هو أن القادة الذين يشعلون الحروب، يبدأون بعدها بأيام أو أسابيع أو شهور بالبحث عن السلام، أي إنهاء الحرب، ووسائل الإنهاء، إما أن تكون عن طريق إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر، وإما استسلام الطرف الآخر، أو عقد اتفاقية أو معاهدة سلام تظهر تفوّق الطرف المنتصر، أو أن الطرف الذي أشعل الحرب بدأ يشعر بالإنهاك والتعب والخسارات، وتبدأ مفردات بالظهور في هذه المرحلة، مثل الانتصار، الخروج المشرف من الحرب، توقيع معاهدة مشرفة مع الطرف الآخر، وغيرها. إذ أحياناً، يكون الفرق بين المنتصر والمهزوم لا يكاد يُرى، وإنما هي عملية عض أصابع، ولا شك في أن هناك عملية سحق تفرض على الطرف الآخر الاستسلام، كما حدث مع ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ومهما يكن من أمر، ستنتهي الحرب بتوقيع اتفاقية سلام، ويبقى الطرفان، المنتصر والمهزوم، على قيد الحياة، ونحن نرى الآن القوى التي هُزمت في الحرب العالمية الثانية. 

والسؤال الساذج والمهم في آن: لماذا تشتعل الحروب، إذا كانت ستُبقي الطرفين على قيد الحياة، لأنها ليست كالمصارعة الرومانية القديمة، قتال حتى الموت، وإن كان حلم كل بادئ للحرب هو قتل وسحق وإبادة الطرف الآخر، وهو هدف مستحيل، فمن غير الممكن القضاء على شعب بأكمله، لأنه سيبني نفسه، ويعيد قواه من جديد، وإن استغرق ذلك سنوات طويلة. 

ونسأل مجدداً: لماذا الحرب؟ والقادة أنفسهم، يعلمون علم اليقين، أن مئات الآلاف من الجنود سيموتون أو يُؤسرون أو يجرحون، وسيتم تدمير أو حرق مساحات كثيرة عمرانية وزراعية، إذ الطرف المنتصر أيضاً يتعرّض للقتل والحرق والدمار، وقد يكون أكثر من الطرف المهزوم، ورغم ذلك تنشأ الحروب بين كل فترة وأخرى وكأنها قدر البشرية، فهل هي قدر البشرية؟.. أنهم، كما قال تولستوي، لا يملكون أمرهم تماماً وأنهم محكومون منذ الأزل لهذا الفعل. ويبدو، أننا، وأمام عجزنا عن الإجابة الشافية عن أسباب اشتعال الحروب، سنلجأ بكل بساطة إلى الفلسفة القدرية، ونقول: مكتوب على البشرية أن تبقى في حروب إلى يوم الدين.

السؤال الآخر الموازي للحرب هو: لماذا لا يدوم السلام؟ فنحن نلاحظ أن المتقاتلين أو المتصارعين لا يتغيرون على مر التاريخ، صراع أزلي بين الشرق والغرب، أو بين الجيران، والأسباب كثيرة.

يقول أحدهم إن السلام لا يستمر، لأن منسوب التسامح قليل في النهر الذي يجري بين الطرفين، فلو اشتغلوا على مبدأ التسامح واستدامته، لن نقول، لألغوا الحروب، ولكن لأخّروها كثيراً، وفي حال أصبح التسامح مادة رئيسية في المناهج الدراسية، فإن فرص اشتعال الحروب ستكون ضئيلة، فمبدأ التسامح يوسّع من دوائر المحبة بين القلوب، ويزيد الأرواح شفافية، فلا يعود يفكّر بالحرب والقتل وسفك الدماء.

نحن نعلم أنه لو قرأت القيادات العسكرية في العالم هذا الكلام سيضحكون، وربما سيرثون لحالي، لأن ثمة منظومة فكرية تسيطر عليهم، التسامح، ليس أحد مبادئها؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد