: آخر تحديث

المجال الحيوي ونظرية الصراع والنفوذ عبر التاريخ المعاصر

3
3
3

تُعدّ نظرية «المجال الحيوي» (Lebensraum) من أكثر النظريات الجيوسياسية إثارة للجدل في التاريخ الحديث، لما حملته من تبرير مباشر للحروب والتوسع العسكري باسم الضرورات الاستراتيجية. وقد تبنّت هذه النظرية قوى دولية وإقليمية عبر العصور المختلفة، بدءاً من ألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر، ووصولاً إلى ممارسات إيران الحديثة في الشرق الأوسط، وفي هذا السياق، يأتي هذا المقال لتحليل تطبيقات هذه النظرية من منظور استراتيجي سياسي، وكيف كانت سبباً في إشعال صراعات، وإعادة تشكيل خريطة النفوذ في العالم، لا سيما في المنطقة العربية.

تقوم نظرية المجال الحيوي على فكرة أن الدولة، مثل الكائن الحي، تحتاج إلى التوسع والنمو في محيطها الجغرافي لتأمين مصالحها الاقتصادية والأمنية والثقافية، وقد استخدم هتلر هذا المفهوم لتبرير غزوه دول الجوار الأوروبي، مدعياً أن ألمانيا بحاجة إلى مساحة أكبر لاستيعاب شعبها المتنامي وتوفير الموارد التي تعزّز قوتها العالمية، هذا التبرير النظري سرعان ما تحوّل إلى أداة للهيمنة العسكرية وفرض الهيمنة القومية.

لم تقتصر النظرية على ألمانيا النازية، وإنما استمرت بأشكال مختلفة لدى القوى العظمى مثل الاتحاد السوفياتي الذي استخدم الآيديولوجيا الشيوعية بصفتها أداة لتحقيق ما يُعرف بـ«المجال الحيوي الروسي»؛ إذ لم تكن الشيوعية في نظر القيادة السوفياتية هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لترسيخ الهيمنة الجيوسياسية على جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان أوروبا الشرقية، وكذا فعلت الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. استخدمت هذه الدول المفهوم ضمنياً لتبرير تدخلها في مناطق نفوذها المفترض. كما ظهر في التدخل السوفياتي في أفغانستان، والسياسات الأميركية في أميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا، هذه المقارنة توضح كيف يمكن للآيديولوجيا، سواء دينية أو سياسية، أن تُوظّف لتبرير سياسات توسعية أو استبدادية باسم مبادئ عامة.

في السياق العربي، شكّل الصراع العربي-الإسرائيلي مثالاً واضحاً على توظيف مفاهيم المجال الحيوي، لا سيما بعد حرب 1967، حين سيطرت إسرائيل على أراضٍ واسعة تحت ذريعة «الحدود الآمنة»، ثم أتت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 لتعيد رسم هذا المجال من جديد، مع إدراك مصر وسوريا أهمية استعادة العمق الجغرافي بصفته جزءاً من استعادة القرار السياسي المستقل.

في المرحلة المعاصرة، تُعد إيران من أبرز الدول التي تبنّت مفهوم المجال الحيوي، وإن بصيغة مذهبية-استراتيجية، تقوم على فكرة «الهلال الشيعي» الممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، ومنذ 2003، بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين، بدأت إيران توسيع نفوذها في العراق سياسياً وأمنياً، ثم في سوريا عبر دعم النظام، وفي لبنان من خلال «حزب الله»، وفي اليمن عبر الحوثيين. لقد رأت طهران في هذه المناطق مجالاً حيوياً يضمن لها عمقاً استراتيجياً في مواجهة خصومها الإقليميين والدوليين، خصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية.

غير أن هذا التوسع الإيراني واجه منذ 2011 تحديات عميقة، فقد أدّت الثورة السورية إلى استنزاف موارد إيران، وتسبّبت في انكشاف استراتيجيتها الإقليمية. كما أسهمت العقوبات الأميركية القصوى بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018 في إضعاف الاقتصاد الإيراني، مما أثّر بدوره في دعمها لحلفائها الإقليميين، ثم جاءت موجات الرفض الشعبي في العراق ولبنان ضد النفوذ الإيراني لتُظهر حدود هذا التمدد، خصوصاً حين أحرقت مقار الميليشيات المدعومة من طهران في مدن الجنوب العراقي، وهتف المحتجون في بيروت ضد «الاحتلال الإيراني»، كل ذلك أدى إلى تراجع فعلي في قدرة طهران على الحفاظ على مجالها الحيوي بالوتيرة نفسها التي بدأتها بعد 2003.

من أبرز مظاهر الصراع على المجال الحيوي اليوم هو التصادم المباشر وغير المباشر بين إيران وإسرائيل، فالأخيرة ترى في النفوذ الإيراني تهديداً وجودياً وتسعى لتقليصه من خلال ضربات جوية في سوريا واغتيالات داخل إيران. في المقابل، تستخدم طهران الأراضي السورية واللبنانية والعراقية منصات للضغط والرد، هذه المواجهة تعكس صراعاً بين مجالَيْن حيويَّيْن متناقضَيْن: واحد إيراني يمتد عبر المشرق العربي، وآخر إسرائيلي يسعى لخلق «منطقة عازلة» حول حدود الدولة العبرية.

والخلاصة تكمن في الدروس المستفادة وإشكالية الجغرافيا السياسية حيث يُظهر التاريخ أن تبني نظرية المجال الحيوي غالباً ما يقود إلى صراعات مدمرة؛ لأنه يقوم على منطق الإقصاء والتوسع بدلاً من التفاعل والتكامل، ورغم تغيّر الأدوات من الجيوش النظامية إلى حروب الوكالة، تبقى الفكرة المركزية واحدة: السيطرة على الجغرافيا بوصفها شرطاً للسيادة، لكن في عالم اليوم، أصبحت الشعوب والاقتصادات والمجتمعات أكثر وعياً بضرورة التعاون الإقليمي والاحترام المتبادل، ما يُحتّم على الدول مراجعة سياساتها التوسعية، وإلا فإنها ستواجه مقاومة داخلية وخارجية تُفرغ «المجال الحيوي» من مضمونه وتُحوّله إلى عبء استراتيجي بدلاً من كونه رصيداً للنفوذ.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد