: آخر تحديث

هذه المائدة التي تسرق الكاميرا

6
5
4

سليمان جودة

لابد أن مائدة إفطار المطرية في القاهرة قد زادت طقوس شهر الصيام في مصر طقساً مضافاً، ولابد أن هذه المائدة قد دخلت موسوعة غينيس الشهيرة، أو أنها في طريقها إلى أن تكون من بين ما تشتمل عليه تلك الموسوعة التي تضم في العادة كل عجيب وغريب في العالم. إن طقوس رمضان في مصر المحروسة كثيرة ولا تكاد تُحصى، وهي طقوس جاءت في غالبيتها من العصر الفاطمي الذي دام نحو 200 سنة، إلا أن المائدة المشار إليها قد لفتت الأنظار وكادت تسرق الكاميرا من بقية الطقوس.

المصريون يعرفون فانوس رمضان الذي كان الصغار يدورون به في الحارات والشوارع إذا جاء الشهر الكريم.. كان ذلك يتم في سنوات ماضية أكثر مما يتم الآن، ربما لأن أشياء طرأت وشغلت اهتمام الصغار عن الفانوس الذي لا يزال من الطقوس طبعاً، ولكنك تجده معلقاً على أبواب البيوت أكثر مما تراه في أيدي الأطفال.

والمصريون يعرفون أيضاً أطباق حلويات رمضان، وفي المقدمة منها طبق أم علي الذي ينافس الفانوس في قائمة الطقوس، وكلها طقوس لا يكتمل الاحتفاء بحضور رمضان بغيرها، لولا أن طبق أم علي يتنافس عليه الكبار، بقدر ما يفرح بالفانوس الصغار.. وربما يكون هذا الطبق استثناءً بين أطباق حلويات الشهر، لأنه يعود إلى حكاية دارت في أيام الدولة الأيوبية، وكانت الملكة شجر الدر أو شجرة الدر هي البطلة فيها، ولكن هذه قصة أخرى طويلة.

أعود إلى مائدة المطرية التي أتمت عشر دورات في هذه السنة، لأنها بدأت في 2013 ولم يمنعها من الانتظام إلا وباء كورونا، الذي عطلها عن المُضي في طريقها عامين اثنين.

أما حي المطرية الذي تقام فيه المائدة فهو واحد من بين أحياء القاهرة، وهو حي شعبي يقع شرق قاهرة المعز، ولم يشتهر في تاريخه كما اشتهر منذ اختار عدد من أبنائه يزيد عددهم على الألفين، أن ينظموا مائدة إفطار هي الأضخم في مصر في كل سنة.

ولماذا لا تكون الأضخم وهي تمتد في 18 شارعاً من شوارع الحي، ويحضرها ما يقرب من 50 ألفاً من الصائمين، وتقام في الـ15 من رمضان في كل عام، وتستهلك أطناناً من اللحوم والأرز والخضر وغيرها من شتى المأكولات، وخصوصاً التي يشتهر بها رمضان بين الشهور؟

وما يميز المائدة أنها تجمع الأقباط مع المسلمين على طعام واحد، وتتجلى فيها روح المحبة بين الحاضرين كما لا تتجلى في أي مناسبة أخرى، ويستحوذ التحضير للمائدة منذ بداية الشهر ثم إقامتها على اهتمام الملايين من المتابعين في وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وتتحول إلى تريند يحظى بالكثير جداً من التحية والإعجاب.

وإذا كان هناك شيء جديد طرأ على المائدة هذه السنة، فهو أن ثلاثة من الوزراء في الحكومة المصرية قد حضروها وتناولوا إفطارهم مع الصائمين عليها، ثم باركوا هذه الروح العالية التي تتجدد بين أبناء الحي كلما جاء رمضان، وهي روح لا بد أنها تمنح الحي كله طاقة روحية كبيرة يظل يمارس حياته عليها طول السنة.

وبعيداً عن الأجواء الاجتماعية والدينية التي تقام فيها المائدة، فإنها لا تزال علامة لا تخطئها العين على أن المجتمع المدني في كل بلد قادر على أن يتصدى للكثير من المهام وأن ينهض بها بامتياز، وأنه فقط يحتاج إلى أن يتلقى الفرصة المواتية والتشجيع المناسب.

إننا أمام مائدة أقيمت وتقام بمبادرة من أبناء الحي أنفسهم، وبغير أن يسهم فيها ولا في تكلفتها أحد من الحكومة، فكلها جهود ذاتية من الألف إلى الياء، والمتطوعون فيها من أهل الحي يفعلون ذلك بسعادة تظل بادية على وجه كل واحد فيهم، وكلما وجدوا إمكانية لتمتد المائدة على مدى أطول، فإنهم يسارعون إلى ذلك دون انتظار.

ولا يزال رمضان قادراً على أن يُخرج أفضل ما في الناس في مصر، وفي غيرها من الدول العربية والإسلامية طبعاً، ولكنه في مصر له مذاق خاص، وهو مذاق لا تشرحه الكلمات مهما حاولت، وإنما يعرفه الذين عاشوا الشهر أو جانباً منه في قاهرة المعز، ومن قبل كان الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، قد قال: مَنْ ذاق عرف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد