أحمد برقاوي
يولد الإنسان في عالم من الثقافة لا يختاره، والأسرة أهم مدرسة من مدارس صناعة ثقافة الفرد، قبل أن يتحول الفرد إلى شخص يقرر بإرادته ممارسة الطقوس التي يرغب بها أو التي لا يرغبها.
فأنا مثلاً نشأت في أسرة مثقفة، والدتي خريجة دار معلمات القدس، وأصبحت مديرة مدرسة حتى رحيلها، ووالدي خريج المدرسة الشرعية الأحمدية (نسبة إلى أحمد باشا الجزار) في عكا.
كان إيمان والدي، مدرس التربية الدينية، مختلفاً عن المألوف، وفي ظني بأنه كان أقرب إلى أهل التصوف. وكان إيمانه بالله عميقاً جداً. وأذكر مرة أنه كان يسقي شجرة في الحديقة وكنت إلى جانبه، وكان ذلك أثناء حرب حزيران 1967، وكان أخي الأكبر عبدالله على خط النار مع قوات جيش التحرير الفلسطيني، فسقطت نملة في الماء، فما كان من والدي إلا أن أنقذها، نظرت إليه وأجابني قبل أن أسأله وهو يعرف عقلي، أنقذت حياة النملة لعل الله يحمي أخاك ثواباً على هذا الفعل، فالله يحمي الحياة.
وكانت طقوس عيدي الفطر والأضحى أساسية في استقبال وفود عائلات القرية، ولم يكن أحد يحمله على ذلك.
أما طقوس الوالدة فمختلفة كل الاختلاف، فهي يافاوية الهوى ولم تستطع التلاؤم مع عالم اللجوء، وقد قتلها الحنين إلى يافا والقدس. وكانت أقرب إلى التطرف المديني.
كل طقوس الحياة التي عشناها كانت تجري على نحو بسيط من دون سلطة قاهرة.
ولعمري بأن كل سلطة تتدخل في طقوس الحياة اليومية التي لا تؤذي الآخر هي سلطة غاشمة. ففي جميع المدن التي أعرفها في الشرق والغرب، وهي كثيرة، يمنع منعاً باتاً قيادة السيارة وأنت متعاطٍ الكحول، لأنك قد تؤذي حياة آخرين. فيما عدا ذلك فأنت حر فيما تفعله.
ويمنع التدخين في الأماكن المغلقة حيث كثير من الناس لا يطيقونه من جهة، وقد يسبب ضرراً لهم من جهة ثانية. فيما عدا ذلك فأنت حر في التدخين. إن جميع طقوس العبادة في العالم هي طقوس تقيم علاقة بين العابد والمعبود، ولجميع المنتمين إلى الديانات أحرار في إقامة طقوسهم الدينية.
ولا يحق لأية سلطة منعها أو فرضها، لأنها مرتبطة بحرية الاعتقاد الفردي. فلا أذى للآخر إن أنت مارستها أم لم تمارسها. وقس على ذلك اللباس والأزياء المتعددة جمالياً وثقافياً، فالسفور والتحجب للمرأة في بلادنا كل هذا يقع في حقل الحرية والثقافة وليس مقصوده الإيذاء. أن يكون لك رأي، مهما كان هذا الرأي، في طقوس الحياة اليومية التي تنتمي إلى الأعراف والتقاليد والتجديد والخيار الفردي، فهذا حق من حقوق حريتك.
ولما كانت طقوس الحياة اليومية هي نمط من العادات والتقاليد، فإن هذه الطقوس تتغير بتغير المجتمع الذي ينتج عاداته وطقوسه الجديدة بشكل عفوي.
ففي مدن بلاد الشام، تحولت طقوس احتفالات الأعراس في الغالب إلى اشتراك الرجال والنساء معاً في حضور العرس. وهذا الطقس لم يكن مألوفاً. ولا يحق لأي سلطة أن تمنع هذا الطقس تحت أي ذريعة.
يقيم في مدينة دبي العامرة ما يقرب من أربعة ملايين إنسان من شتى أصقاع الأرض، ينتمون إلى مئتي جنسية، وكل جنسية تمارس طقوسها الثقافية، دون أي تدخل، مع الالتزام بالقوانين والواجبات.
وهذا هو جوهر قولنا السابق المتعلق بالاعتراف بحق أية جماعة ممارسة طقوسها الثقافية دون أن يكون مقصودها إيذاء الآخرين.