”كل إنسان يموت .. و لكن ليس كل إنسان يحيى“ ..
تلك هى كلمات مارتن لوثر كينج أيقونة الحلم .. الذي دفع حياته و هو مقيم على حُلمه فى أن يحيل كل عنت فى حياة أمته إلى أمل و يسر، و كل ضيق إلى سعة و كل قبح إلى جمال باقٍ.
ترددت كثيراً فى كتابة هذه السطور .. فظاهرها فيما لا أحب أن أكتب فيه.. و لا أجيد الكتابة فيه.. و هو الرثاء.
فظني أن العاطفة قد تغالب الصدق - دونما قصد - و فى هذا حياد عن مصداقية واجبة فى حق قارئ .. و لكن حينما لملمت شذرات فكري وجدتنى لست أرثي .. فمن أذكره هو من تلك القلة التى تحيا و لا تموت .. و لا يستقيم فى حقها رثاء .. و لكنه سرد لسيرة و مسيرة ثرية ملهمة، كانت و ما زالت و ستظل.
إنسان هذه السيرة إعتنق الجمال مظهراً و مخبراً .. فأحب الحق و اقتفاه و صار دالاً على الخير فياضاً به .. دونما صخب.
صاحب هذه السيرة هو الإنسان ”محمد بن عيسى“ وزير الثقافة و وزير الخارجية الأسبق فى المملكة المغربية .. و قبل ذلك و بعده هو إبن مدينة أو قرية أصيلة المغربية، و عُمدَتها فى لاحق و باعث روحها ثقافة و جمالاً و فكراً بمؤسسة ”منتدى أصيله الثقافي“ .. تلك التظاهرة الفكرية الثقافية الفينة التى بدأت قبل خمسة و أربعين عاماً من الحلم و المجاهدة و الكد و المثابرة و الجمال.
هو ”سي بن عيسى“ الذي غادر دنيانا، دنيا البشر منذ أيام قلائل .. و الباقي إنساناً حياً بيننا و فينا.
”الصديق هو من تجلس معه ساعات و ساعات دون أن تتبادلا كلمة و دون أن ينقطع الحوار بينكما“ .. كان ذلك رد د.محمود فوزي - السياسي المصري المخضرم - حينما سأله استاذنا الكبير محمد حسنين هيكل عن ”من هو الصديق.؟“
و لهذا كان ”سي محمد بن عيسى“ هو الصديق الذي أهدتني المقادير صحبته فى معية الجمال عقلاً و حساً.
إلتقينا فى مصر أو فى المغرب أو فى غيرهما أم لم نلتق .. تواصلنا أم لم نتواصل .. لم ينقطع الحوار بيننا يوماً.
حينما كان يطل علي بصوته البشوش المقبل الحاني .. فيبدأني إتصالاً تجلجل فى أوله إبتسامته الواسعة - و التى و إن لم أراها أسمعها- منادياً ”سيدي مصطفى“ .. ليحكي و يسترسل في شئون كانت فى قلب أوجاع عالمنا العربي .. أو ليستشرف آفاق حلم و أمل يجمعنا لخروج واقعنا العربي من تيه.. أو ليطمئن و أطمئن على أحواله و أحوال قرينته الجليلة الفاضلة السيدة ليلى.. كان الحوار حاضراً.
و حينما تدهمنا مشاغل الحياة و نحن فى وطنىّ سكنانا فى طرفي الشمال الافريقي بين الرباط و القاهرة.. فلا نتحدث لشهور .. كان الحوار حاضرا و كان الود موصولاً و كان اليقين بأننا و كأننا تركنا طرف الحديث بالأمس و الأمس فقط.
سيرة ” محمد بن عيسى“ حَرِيُة بالتأمل و جديرة بالدرس
وُلِد ”سي محمد“ فى أصيله تلك القرية البسيطه على سواحل الأطلسي و تلقى تعليمه الأولي فى مدارس المدينة القديمة .. و ذلك قبل أن يوفد إلى القاهرة لإتمام دراسته الثانوية و ليتشكل وجدانه مصرياً خالصاً، تكاد لا تخطئه و هو يبهج جمعاً بنكته مصرية حاذقة أو يدندن بأغنيات عبد الوهاب و أم كلثوم أو حين يحكي كيف رأته كوكب الشرق مرة مصادفة و هو يسير بجوار فيلتها فى الزمالك و ما ذا قالت له..
كل ذلك فى خمسينيات القرن الماضي حيث القاهرة وهج ثقافي و سياسي و فنى و فكري لا يخبو .. و كل ذلك بقي وهجاً فى وجدان ”سي بن عيسى“ حتى آخر لقاءاتنا فى أصيله فى أكتوبر من العام ٢٠٢٤.
ثم ما يلبث أن يطلب تعليمه الجامعي فى بعثة فى الولايات المتحده متخرجاً فى مينيسوتا فى العام ١٩٦٣ لتصقله التجربة بِبُعد جديد يثريه و يؤهله لدور سياسى و ديبلوماسي مرموق فى تالٍ.
و لتبدأ بعدها تجربة عريضة فى العمل الدولى فى منظمات الأمم المتحدة بين عواصم أفريقيا و أوروبا.. يعود بعدها إلى المغرب و لكن و الأهم إلى أصيلة.. و منها يبدأ الحلم المثري و الملهم و الصادق.
ظاهر الأمر أن شاباً أربعينيا شغوفاً بالسياسة يقرر أن يبدأ رحلته بالترشح عضواً فى البرلمان عن مسقط رأسه.. و لكن تداعي الحقائق و على مدار قرابة الخمسين سنة تقول شيئاً آخر.
يترشح الشاب لمنصب عمدة أصيله و يحرزه لثلاث دورات متتالية بين الأعوام ١٩٨٣ و ٢٠١٠ .. و هنا يكون الحلم الذي استودعه الشاب ”محمد“ الجمال و الثقافة و الفكر آملاً أن يحيى مسقط رأسه و يحرز لأبناء أصيله موقعا أفضل على خريطة التنمية و السعة الإقتصادية و الإجتماعية و الإنسانية.
يصدق الشاب فى حلمه.. فينشئ مؤسسة ”منتدى أصيله“ القائمة على تنظيم و إدارة فعاليات موسماً ثقافيا فكرياً فنيا بل و سياسياً فى تلك المدينة البديعة الصغيرة.. ينشئ ذلك و هو بعد عضو فى البرلمان لا أكثر .. لم يكن بعد وزيراً أو فاعلاً فى السلطة التنفيذية المغربية .. و يستطيع باقتفاء صدق الحلم أن يبادله كباراً صدقاً بصدق .. فيأتيه قامات بحجم الشاعر و الرئيس السنغالي ”ليوبولد سينجور“ كما يأتيه قامات من قارات الدنيا الست كما خبرت فى لاحق.. مصدقين متفاعلين مع حدث حقيقي بعيد عن الاستهلاك السياسي أو الإعلامي الممجوج.
و رغم الإقتدار و الحنكة التي كان بهم ”بن عيسى“ برلمانيا متميزاً ثم وزيرا للثقافة و أخيرا وزيراً للخارجية لفترة تتجاوز العشرين سنة و نجاحات مشهود بها فى تنمية و تطوير الثقافة المغربية.. كما الوجود فى قلب محطات فارقة للسياسة الخارجية المغربية بين عهدي ملكين جليلين على العرش العلوي المغربي.. بقي الحدث الإنساني العلامة الذي به يحيى ”سي بن عيسى“ هو في كل جدارية تنطق بالجمال على جدران المدينة القديمة فى أصيله، هو فى مدرسة أصيله الإبتدائية القديمة التى تربي أجيالا واعدة كمثله، هي فى كورنيش أصيله الذي يتجمل بتؤده و ثقة عاماً بعد عام، و بأعلام العالم ترفرف عليه لتشهد من العالم لأصيله بأنها فى القلب.
حكى لي كثيراً.. كيف كان التشكك بل و السخرية و هو يبدأ مشروعاً ثقافيا فكريا فنيا فى أصيله الفقيرة من رفقاء اليسار المغربي .. كيف كانت الحجة السطحية التى تظن أن الخبز و الجمال لا يلتقيان.. و أن الفقير يلزم أن يظل محروماً من إنسانيته ما دام البحث عن سد رمقه هو الأولوية ..
طال حديثنا فى ذلك.. لأحكي له بدوري كيف و فى ليلة من ليالى شتاء ١٩٧١م.. ٢٨ أكتوبر على وجه الدقة .. إحترقت دار الأوبرا الخديوية المصرية عن آخرها.. و لم يبقَ منها- و للمفارقة - إلا تمثالي” الرخاء “ و” نهضة الفنون“..!
إحترق محراب الجمال هذا و كأن نهايته جاءت لتكتب الأسطر الأولى فى صفحة ثقيلة - من مجافاة المنطق - من تاريخ المنطقة و لتدبج عهداً بائساً من الغلظة و التنطع الدينى ليس فى مصر وحدها و لكن فى عالمها العربى كله.. و الذى ما لبث أن استحال تنطعاً فى كل مناحى الحياة..!
و كأنها تُكَرِّس لَعنَة لم تُفارِقنا من الصَخَب و الادَّعاء و مُجافاة الحق و الخير .. كل ذلك مُرَمَّزاً فى مجافاة الجمال و إعتمادنا القبح سبيلاً للحياة .. قُبحُ الفِكر قبل قُبح السَمت .. و قُبح الجوهر قبل قُبح المظهر ..!
قلت له أن حريقها كان - و بلا تَزَيُّد - حَدثا فارقاً بين عَصرَيِّن و مِصرَيِّن و عالَمين .. و إن لم يكن الحدث فى ذاته مؤسساً لعصر من التدنى فكان و بلا شك شاهداً لبدايته و علامة عليه ..!
و إمتداداً لشجون حديثنا .. قلت له أنه من يرى إقحاماً لذلك الحدث و دلالته على إنهيار مجتمعى ضرب بأطناب المنطقة العربية بأسرها - و تسارع منذ حينها و إن لم يبداً حينها - فليرَ كيف كان - و بالضد - بناء دار الأوبرا حين بنيت عام ١٨٦٩ م شاهداً على الولع بالتنوير فى دولة تقودها ” فلسفة الجمال “ ..” جمال السياسة “ بالولوج أولى خطوات الدولة الدستورية و ” الجمال الحسى “ فى العمران و التشييد ..
ذلك الحرص على الجمال أرسى بجوهره - و لو بغير قصد - مآلا للخير أفضى الى ملامح علم و عقل و حكمة عربية قبل أن تكون مصرية أثمرت أدب ” الحكيم “ و فكر ” العقاد “ و تنوير ” طه حسين “ و” حقى “ و” هيكل “ و شعر” شوقى “ و موسيقى” سيد درويش “ و ” عبد الوهاب “ و” أم كلثوم “ و مسرح” وهبى “ و” الريحانى “ و علم” مشرفه “ و فقه” السنهورى “ .. و بزوغ لقوة ناعمة عربية و كأنها تصل الروح بالأندلس و تزكى جذوة تنويره و تجلياته الحضارية .. كانت تجليات إنفتاح عربى إسلامى على إنسانينا إهتداءً بقيم الجمال فكراً و فعلاً .. و إعتماداً له منهجاً للحياة و أحالته شغفاً بالتنوير و الاتقان ..!
قلت له .. و كأن حريق المبنى العتيق كان حرقاً لما بقى من راية التنوير فى منطقتنا و تبديد لِفُتَاتِ الرغبة الصادقة فيه ..!
فالجمال خُلُق ينم عن عقيدة و يبدو أثره فى الفعل .. و ليس من فارق كبير بين مَن يُنكِرونه و من يُنكِرون كل غير مشاهد أو ملموس من قيم الخير و الحق .. !
فليس من اهتدى بالجمال و تجلياته إخلاصا و إتقاناً و عِلماً .. كمن أنكره .. ليسوا سواءَ .. ..!
قلت له لك أن تفخر بأن نداء التنوير الذى بدا و كأنه ينحسر لم يكن ليعدم من يُلَبِّى فى أمَّةِ حَية فى مشرق و مغرب .. و ليدرك ذلك النداء الأصيل ضالته فى ” أصيلة “ .. أحد مواطئ السكينة الممزوج بعبق الأندلس ..
فى كل عام التقينا رأينا كيف لَبَّت أصيلة نداء التنوير وكانت ممن يحملون الهم و اللواء الذى أريد له أن يسقط أو أن ينتزع .. ليزرع فى تربة تكفره و تنكره و تكره العقل باسم السلفنة بنقل و بغير عقل .. و كان لسان حال كل لقاءاتنا أنه ” لمن يَتَقَالُّون الجمالَ .. فليعلموا أنه ما كَفَر مُجتمع بالجمالِ إلا بعد أن كَرِهَ الحَقَ و حَادَ عن الخيرِ ..“
”سي محمد“ طبت حياً .. فمثلك لا يموت .. أنت باق ما بقيت كل غرسة جمال و خير غرستها .. و لك من القاهرة و من مصرك سلام ..
فَكِّرُوا تَصِّحُوا ..
د. مصطفى حجازى
٢ مارس ٢٠٢٥