: آخر تحديث

من «مفترق الطرق» إلى «معالم في الطريق»

1
1
1

لشدة إعجابِ سيد قطب بكتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق» استعار من عنوان الكتاب عبارة «مفترق الطرق» فجعلها عنواناً للفصل الأخير من كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وهو العنوان الذي كان بمثابة خاتمة لكتابه، فكان عنوان هذا الفصل أو الخاتمة «في مفترق الطرق».

عبارة «على مفترق الطرق» أو «في مفترق الطرق» أو «عند مفترق الطرق» عبارة أجنبية على اللغة العربية وعلى الثقافة العربية، لكنْ لها تاريخ مديد في الثقافة الغربية.

«At the crossroads»، هذه العبارة الإنجليزية تترجم إلى العربية بعبارة «على مفترق الطرق»، وتعني عند نقطة تلاقٍ أو نقطة تحوُّل. وهي المكان الذي يتقاطع فيه طريقان، وكان لها في الغرب في أزمنة غابرة مغزى، أو دلالة أو أهمية خاصة. فبعض قبائل أوروبا استخدمت منطقة تقاطع طريقين أو تقاطع طرق حيِّزاً مكانياً لتقديم النذور والقرابين في هذه المنطقة.

وقد تكون ممارسة هذا الطقس في هذا النوع من الأمكنة سبباً في أزمان تالية، لأن يصير هذا النوع من الأمكنة المكان المختار لإزهاق الأرواح الآدمية عقوبة أو قصاصاً.

في الأزمنة المسيحية كان يوضع صليب عند نقطة مفترق الطرق لدفن الخطاة (القتلة والمنتحرين) فيها لتنبيه المسيحيين الأتقياء وإعلامهم بأنه في هذا المكان دُفن أشرار آثمون. فهؤلاء كان يحظر حظراً باتاً دفنهم في الأراضي التابعة للكنيسة، لأن قدسيتها قدسية غير محدودة.

ملتقى الطرق كان أيضاً المكان المُفضل لعمليات نصب الكمائن والفِخاخ للمتجولين والمسافرين.

مع قِدم عبارة «عند مفترق الطرق» إلا أنه بدأ تداولها بانتظام في بريطانيا منذ القرن الثامن عشر، وصارت تعني -مجازاً- وقتاً يقتضي فيه القيام باختيار صعب ودقيق؛ لأنه وقت جاء في مرحلة مصيرية. وبهذا المعنى المجازي استخدم محمد أسد هذه العبارة في متن كتابه وفي عنوانه.

المفارقة أن المعنى الغربي الحديث لعبارة «مفترق الطرق»، كان هو المعنى الذي استخدمه فيه شاعر اليونان القديم ثيوغنيس (570 ق م – 485 ق م) في قوله في مرثية من مرثياته: «ها أنا أقف في مفترق الطرق».

في اللغة العربية كانت تستخدم كلمة «مجمع» وكلمة «ملتقى» وكلمة «ملقى»، والكلمتان الأخيرتان هما مترادفتان في المعنى مع معنى الكلمة الأولى. تستخدم هذه الكلمات الثلاث عوضاً عن كلمة «مفترق». وتستخدم كلمة «السبيل» لا كلمة «الطريق»، وكلمة «السبل» لا كلمة «الطرق»، هذه الكلمات كانت تستخدم في عناوين كتب تراثية.

المثقف المصري ذو الثقافة الأوروبية، إسماعيل مظهر، استخدم كلمتين من هذه الكلمات الثلاث في شرح نظرية علمية حديثة في عنوان كتابه «ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء» الصادر في عام 1926.

كلمة «مجمع» وردت في آيتين من القرآن، هما:

«وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً».

«فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً».

ووردت كلمة «السبيل» بمعنى الطريق في 25 آية قرآنية، ووردت كلمة «طريق» في 4 آيات قرآنية.

قد يكون أول استعمال للعبارة «مفترق الطرق» في عنوان تقرير سياسي لم يرفق به اسم كاتبه، نشر في مجلة «الهلال» بتاريخ 1 مايو (أيار) 1920، وكان العنوان «سوريا في مفترق الطرق». وترددت هذه العبارة قليلاً في عناوين مقالات ما بين ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.

ففي ثلاثينات القرن الماضي نجدها في عنوان خاطرة كتبها الأديب اللبناني راجي الراعي، نشرت في مجلة «الهلال» بتاريخ 1 مايو 1934، وكان عنوان الخاطرة «في مفترق الطرق». ونجدها في عنوان مقال سياسي للأديب السوري حنا خبَّاز، نشر في مجلة «المقتطف» بتاريخ 1 يناير (كانون الثاني) 1938، وكان عنوان هذا المقال «الارتداد عن الثورة العالمية: روسيا على مفترق الطرق».

وفي أربعيناته نجدها عنواناً لقصة كتبها نجيب محفوظ، منشورة بمجلة «الرسالة» بتاريخ 1 أغسطس (آب) 1941، وكان عنوانها «مفترق الطرق». ونجدها في عنوان مقال لمحمد عبد الواحد خلَّاف نشر في مجلة «الثقافة»، بتاريخ 28 ديسمبر (كانون الأول) 1943، وكان العنوان «المسلمون في مفترق الطرق».

وفي العام الذي ترجم فيه كتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق» عام 1946، نجدها في عنوان مقال لأحمد حسن الزيات، نشر في مجلة «الرسالة» بتاريخ 22 أبريل (نيسان) 1946، وكان عنوان المقال «الأزهر في مفترق الطرق». الشيخ محمد المدني كتب تعقيباً على هذا المقال، نشر بتاريخ 29 أبريل 1946، وكان عنوان التعقيب -أيضاً- «الأزهر في مفترق الطرق».

لسيد قطب قصيدة عنوانها «في مفرق الطريق» منشورة في مجلة «الرسالة» بتاريخ 18 أغسطس 1941. وله مقال في مجلة «الشؤون الاجتماعية» العدد 11، نوفمبر (تشرين الثاني) 1943، عنوانه «في مفرق الطرق بين القومية والعالمية».

عبارة «في مفرق الطريق» سيختارها عنواناً لمقالة من مقالات كتابه «السلام العالمي والإسلام» الصادر في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1951، لكن بصيغة الجمع. هذه المقالة بالعنوان نفسه «في مفرق الطرق» نشرت في مجلة «الرسالة» بتاريخ 8 أكتوبر 1951، وكتب في تقديمها هذا التنويه «من كتاب السلام العالمي والإسلام، يصدر بعد أيام». وكما ترون فإن المقالة هي التي نشرت قبل صدور الكتاب بأيام!

عبارتا «مفرق الطريق» و«مفرق الطرق» استعملهما سيد قطب في تفسير عدد من آيات القرآن في كتابه «في ظلال القرآن».

عبارة «مفرق الطرق» مثلها مثل عبارة «مفترق الطرق» هي ترجمة للكلمة الإنجليزية «Crossroads»، فهل سيد قطب في عنوان قصيدته «في مفرق الطريق» سكَّ هذه العبارة بالعربية ترجمة عن الإنجليزية، أو هو حوَّر كلمة «مفترق» -التي كانت مستعملة قليلاً- إلى كلمة «مفرق»؟

الإجابة هي: أن سيد قطب استعار عنوان قصيدته من عنوان مسرحية كتبها الأديب اللبناني المتمصر بشر فارس. عنوان هذه المسرحية هو «مفرق الطريق» نشرها في كتاب بالقاهرة عام 1938، ثم ترجمها إلى اللغة الفرنسية، ونشرت في مجلة فرنسية عام 1950. بشر فارس كان من روَّاد الرمزية في الأدب العربي في المسرح وفي الشعر.

برهاني على أن سيد قطب استعار عنوان قصيدته من عنوان مسرحية بشر فارس، أن عنوان القصيدة متطابق مع عنوان المسرحية. المسرحية مسرحية رمزية، وسيد قطب كان قد كتب فوق عنوان قصيدته عنواناً تعريفياً بها، هو: «من الشعر الرمزي»!

قبل أن يستعمل بشر فارس كلمة «مفرق» في عنوان مسرحيته استعملها المؤرخ المصري محمد شفيق غربال في بحث له منشور في مجلة كلية الآداب بالجامعة المصرية في مايو عام 1936. هذا البحث عبارة عن نشر وتعليق، وعنوانه هو: «مصر عند مفرق الطرق 1798 – 1804 (المقالة الأولى) ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية، كما شرحه حسين أفندي أحد أفندية الروزنامة في عهد الحملة الفرنسية».

رأى شعبان يوسف في كتابه «مجلة صباح الخير: سيرة ثقافية» أن سيد قطب سرق عنوان كتابه «معالم في الطريق» من افتتاحية للعدد المزدوج -العدد الثاني والعدد الثالث- من مجلة «الغد» الصادر في 1 يوليو (تموز) 1953، كتبها صلاح حافظ، فعنونها بـ«معالم في الطريق».

مجلة «الغد» مجلة شيوعية أسسها عبد الرحمن الشرقاوي وحسن فؤاد وصلاح حافظ، وتولَّى الثاني رئاسة تحريرها، وصدر أول عدد منها في 1 مايو 1953.

افتتاحية العدد المزدوج «معالم في الطريق» من هذه المجلة التي أشار إليها شعبان يوسف تحولت في أعداد تالية إلى باب ثابت فيها مكون من عدة صفحات، يتضمن أخباراً وتعليقات.

هذه المجلة لما سُمح لها بإعادة إصدارها، بعد إيقافها مدة من الزمن، فصدرت في أول شهر من عام 1959، استأنفت الباب الثابت فيها «معالم في الطريق» ذا الصفحات الكثيرة. إن الرأي الذي ذهب شعبان يوسف إليه رأي صحيح، فسيد قطب استعار هذا العنوان استعارة حرفية من الافتتاحية التي كتبها صلاح حافظ، وقد يكون صلاح حافظ سكَّه، أو أنه سُك بعد تشاور صحافي عقائدي شيوعي حول صيغته من قبل محرري مجلة «الغد».

أعزز رأي شعبان يوسف بذكر المعطيات التالية:

سيد قطب معنيٌّ بمتابعة ما يكتب بالمطبوعات الشيوعية المصرية من الأربعينات الميلادية، وربما قبلها، للاستفادة منها للاطلاع على الفكر الماركسي من جهة، ولبلورة موقف نقدي مضاد لهذا الفكر من جهة أخرى.

الافتتاحية نشرت قبل اعتقاله الأول مع الإخوان المسلمين في 13 يناير 1954، الذي استمر لمدة شهرين وأربعة عشر يوماً.

إرفاق كلمة «معالم» بكلمة «الطريق» تعبير لا تخطئه العين بأنه تعبير ماركسي بامتياز، ومن السهل أن تهتدي إليه صياغة، إن كنت داعية إلى الماركسية متشبعاً بعقيدتها.

سيد قطب كان يبحث عن هذه الصيغة من التعبير «معالم في الطريق» منذ أن كان في مرحلته الإسلامية واقفاً «على مفترق الطرق» يأمر المسلمين باتخاذ «الوجهة الصحيحة» إلى الإسلام، لكنه لم يهتدِ إلى هذه الصيغة. ومع عثوره عليها في مجلة شيوعية، رأى أن من حقه الأدبي الكامل ومن حقه الروحي التام أن يستولي عليها. فهو منذ تأليفه كتابه الإسلامي الأول «العدالة الاجتماعية في الإسلام» كان يخط للمسلمين «معالم الطريق إلى التطرف الإسلامي». وللحديث بقية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد