على عكس ما نعرفه ونستخدمه في حياتنا اليومية، تتميَّز قطارات السلام بمزايا خاصة لا تخضع للمتعارف عليه. بدلاً من المهندسين، يتولَّى الساسة أمر التصاميم، وتُخصص مقاعد القيادة للتطورات والمفاجآت. خطوطُ سيرها لا تخضع لمعايير أو مقاييس ثابتة، وتختلف في درجات سرعاتها. بعضها مخصص لقطع مسافات التصاميم ظهر خلال الأسبوع الماضي، حين تابعنا على شاشات القنوات التلفزيونية قطار سلام جديداً، ينطلق من مدينة جدَّة السعودية، في رحلة بالتواءات كثيرة، وقد لا تكون قصيرة وهادئة، كما يتمنَّى كثيرون. ورغم تعدد الطرق التي تقود إلى السلام، فإنها، في الأغلب، ليست مستقيمة، وبعضها بمنعطفات حادَّة وخطرة.
المرحلة الأولى من رحلة قطار السلام «الأوكراني - الروسي» تمت في سلاسة مثيرة ولافتة للاهتمام. في مدينة جدّة التقى الوفدان الأميركي والأوكراني في الموعد المتفق عليه، وخلال ثماني ساعات تمكَّنا من الوصول إلى اتفاق، يقضي بفرض فترة هدنة قصيرة لمدة 30 يوماً في الحرب الدائرة منذ ثلاث سنوات.
الرحلة ما كانت لتبدأ لولا إشهار الرئيس الأميركي لعصا قطع المساعدات على أوكرانيا، الأمر الذي اضطر الرئيس زيلينسكي إلى القبول بركوب القطار. الآن، أصبحت الكرة في الملعب الروسي. وهذا ما صرَّح به للصحافيين في جدة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو لدى خروجه من قاعة الاجتماع مع الوفد الأوكراني.
الملعب الروسي يختلف شكلاً ومحتوىً عن الملعب الأوكراني، ووضعه على مختلف الصُّعد أفضل بكثير، ويحظى فريقه بكابتن مخضرم. على الصعيد العسكري، تتقدم قواته على جميع محاور القتال في مختلف الجبهات. وهي الآن، استناداً إلى الرئيس بوتين، تحاصر القوات الأوكرانية في إقليم كورسك الروسي، ناهيك عما استحوذت عليه من أراضٍ أوكرانية شرقاً وجنوباً، خاصة في الأسابيع الأخيرة. هذه الوضعية العسكرية المميزة ستحظى، من دون شك، بعين الاعتبار على أي طاولة مفاوضات يكون الروس أحد أطرافها.
وانطلاقاً من هذه الوضعية المميزة، وضعتْ موسكو علامات تحذير في طريق سير القطار القادم من جدة. التحذيرات بدأت بخطوة ارتداء الرئيس بوتين بدلة عسكرية لأول مرة منذ بدء الحرب، والقيام بزيارة قواته في إقليم كورسك الروسي، وهي الزيارة الثانية له. ارتداء بدلة عسكرية في هذا الوقت ليس بهدف الاستعراض، بل لتوصيل رسالة إلى العالم عموماً، والرئيس الأميركي خصوصاً. بعدها، في مؤتمر صحافي عقده في قصر الكرملين يوم الخميس المنصرم، أعلن، في خطوة استباقية، ترحيباً بدا متردداً باتفاق وقف إطلاق النار، ومفضلاً تسوية نهائية تأخذ في اعتبارها الأسباب التي كانت وراء اندلاع الحرب، وأوضح المحاذير المتعددة التي قد تنجم عن اتفاق الهدنة القصيرة لصالح الجيش الأوكراني. وتساءل عن هوّيات مَن سيعهد إليهم بمراقبة خط وقف إطلاق النار، على حدود تمتد لمسافة 2000 كيلومتر. بعدها أعلن عن المطالب الروسية: أولها عدم السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى حلف «الناتو». هذا المطلب يلاقي قبولاً لدى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، صاحب مبادرة وقف الحرب، وكذلك لدى كثيرين آخرين. المطلب الثاني أن يمنح المجتمع الدولي اعترافه بحق روسيا في ضم الأراضي الأوكرانية التي احتلتها إليها، وهي: شبه جزيرة القرم، والأقاليم خيرسون، وزابوروجيا، ودونتسك ولوهانسك. هذا المطلب مرفوض أوكرانياً، ولا يجد تعاطفاً دولياً. لكن الرئيس زيلينسكي قد يُذعن للأمر الواقع إذا وافقت واشنطن. المطلب الثالث عدم السماح بوجود قوات سلام دولية داخل أوكرانيا إذا تم التوقيع على الاتفاق.
غلف الرئيس بوتين رفضه لاتفاق الهدنة القصيرة بورق ملون ليلاقي قبولاً. وفي ذات الوقت، عمل قصداً على إبطاء سير القطار وكسب الوقت لتتمكن قواته من تحقيق أهدافها المرسومة على كل الجبهات، وبهدف حرمان الرئيس الأوكراني من أي أوراق تفاوضية. هذا التصميم لخط وسرعة سير قطار السلام قد لا يحظى برضا صاحب المبادرة الرئيس ترمب، الذي يبدو في عجلة من أمره لإتمام صفقة أخرى ناجحة تضاف إلى قائمة طويلة من صفقاته الناجحة.
خطة السير الروسية المصممة في قصر الكرملين تحظى بنسبة نجاح لا تقل عن 50 في المائة، ونسبة فشل مماثلة. قد ترجح كفة نجاحها، إذا تمكن الرئيس بوتين من إقناع الرئيس ترمب بها، وحظي بدعمه. وفي حالة الفشل، على روسيا تحمل عبء شحنة عقوبات أميركية أخرى شديدة، تضاف إلى ما سبق من عقوبات أميركية وأوروبية. العقوبات السابقة والمتعددة ضد روسيا منذ بدء الحرب لم تقف حائلاً دون إنجاز القوات الروسية في ميادين المعارك لأهدافها، وبأثمان باهظة كما تؤكد تقارير إعلامية.
هل يعني ذلك أن على قطار السلام التوقف والانتظار على أمل استئناف الرحلة، أم التوقف والعودة إلى محطة الانطلاق؟
الأمر يتوقف على أمور كثيرة، قد لا تبدو واضحة للمعلقين الخارجيين. إلا أن مسيرة رحلات قطارات السلام تاريخياً لا تخلو من مفاجآت، ولا تخلو كذلك من إحباطات. وعلى ما يبدو، فإن رحلة قطار السلام «الأوكراني - الروسي» قد تكون حافلة بالاثنين.