«إللي حضّر العفريت يصرفه»، قول شعبي في مصر يعني أن العلاج الملائم لظاهرة يكون بيد من خلقها؛ تذكرته لمضي الزعيم البريطاني السير كير ستارمر في اتخاذ سياسات غريبة عن آيديولوجية «العمال»، بل ومعاكسة لمفاهيم الاتجاه الاشتراكي التقليدي للحزب. الطريف أن المعلقين على منصات السلطة الرابعة بكافة أشكالها يصفونها بسياسات حزب المحافظين الذي تحرك بدوره يساراً نحو المنتصف الليبرالي؛ وهو ربما أحد أهم الأسباب التي أدت إلى خسارته الكارثية في انتخابات الصيف الماضي.
ستارمر صعد نجمه، لا شعبيته داخلياً، خصوصاً مع تردي الاقتصاد وزيادة الضرائب وانخفاض مستوى المعيشة والقدرة الشرائية للمواطن وتدهور الخدمات، بسبب تطور أحداث خارجية، كنجاح زيارته للبيت الأبيض، ودعوته لمؤتمر زعماء عالميين لدعم أوكرانيا والدفاع عن أوروبا التي بدأ يلعب دور الوساطة بينها وبين الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي يصعب على كثير من رؤساء الحكومات التعامل معه.
استغل الزعيم العمالي التقارير الصحافية التي جاءت غير سلبية للمرة الأولى منذ ترؤسه الحكومة، ليجد زر الشجاعة في لوحة القيادة، فيمضي مسرعاً ليدهس أكثر من بقرة مقدسة لدى ناخبي «العمال»، والوجدان الشعبي كله.
سياسات وصفها جون مكدونل، وزير مالية الظل السابق، ومن زعامات الحزب القوية، بأنها تجعل الحكومة «لا تبدو عمالية»، فكلها سياسات وإجراءات كان المحافظون يريدون اتخاذها لدعم الأعمال والاستثمارات والنمو الاقتصادي وإنقاذ خدمات مثل الصحة العامة والضمان الاجتماعي من التدهور، لكنهم لم يجرؤوا على اتخاذ أي منها طوال 14 عاماً من حكمهم (خمسة منها ائتلاف مع «الديمقراطيين الأحرار»).
ستارمر فجَّر مفاجأة بإعلانه حل الهيئة العمومية للخدمات الصحية في إنجلترا التي تشرف وتدير المستشفيات (704 في إنجلترا تمثل 76 في المائة من كل مستشفيات بريطانيا) والمستوصفات والصيدليات والعيادات بميزانية 190 مليار جنيه. الهيئة التي أسستها في 2013 حكومة ائتلاف «المحافظين» و«الديمقراطيين الأحرار» بزعامة ديفيد كاميرون لتكون مستقلةً عن سياسات الحكومات التي تتغير بالانتخابات. ومع هيئتين مماثلتين في إمارة ويلز وأسكوتلندا يمثل الثلاث الخدمة القومية للصحة التي أسستها الحكومة العمالية بزعامة كليمنت أتلي في 1948، بتأميم المستشفيات الخاصة وضمها في إدارة عامة موحدة؛ الـ«NHS» (الأحرف الأولى من خدمة الصحة القومية) التي عالجت قرابة تسعة ملايين في العام الماضي، وأصبحت من مكونات القومية البريطانية المعاصرة، ولها في وجدان الشعب البريطاني قدسية في مصاف العقيدة لدى الشعوب المتدينة. خطوة ستارمر صدمت الرأي العام، بينما رحب بها دعاة تقليص البيروقراطية، فستوفر 500 مليون جنيه سنوياً، وتوفر نصف الوظائف فيها (18600 وظيفة كلها مكتبية) بنقل مهماتها إلى وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية، وتوجيه التوفير إلى ميزانية الأخصائيين الطبيين والممرضات. الهيئة وُصفت بأنها «أضخم كوانغو في العالم»، وتحوّلت إلى «وحش بيروقراطي باهظ التكاليف»؛ و«Quando» هي الأحرف الأولى من تسمية «منظمة غير حكومية شبه مستقلة»، كهيئات لها صلاحيات كانت من اختصاص وزارات الحكومة المنتخبة. حكومة ستارمر تعد بأنها ستلغي الكثير من هيئات «الكوانغو» التي تكلف دافع الضرائب 124 مليار جنيه بعد ارتفاع ميزانيتها بقرابة 60 في المائة خلال ثلاث سنوات. لكن 25 هيئة «كوانغو» جديدة تأسست منذ تولي «العمال» الحكم قبل ثمانية أشهر.
ستارمر أعلن أيضاً عزمه تقليص جهاز الدولة الوظيفي مما سيُدخله في صدام مع النقابات العمالية التي تموّل حزب العمال من اشتراكات أعضائها، بجانب احتمال تمرد كثيرين من نواب الحزب من التيار اليساري، خصوصاً بسبب تخفيض ميزانية إعانة البطالة والرعاية الاجتماعية، والتضييق على مستحقيها، بما فيهم بعض المعوَّقين.
لكن لماذا أقدم «العمال» على إصلاحات من طبيعة تفكير «المحافظين»، ولم ينفذوها لأن الرأي العام لديه الانطباع (الخاطئ بسبب المؤسسات الإعلامية) بأن «المحافظين» هو حزب الأغنياء والمستثمرين الذين يريدون خصخصة خدمة الصحة القومية والقطاع العام.
وبعكس «المحافظين»، فإن ستارمر يتزعم الحزب الذي «حضّر عفاريت الاشتراكية» كالخدمات الاجتماعية ومؤسسات القطاع العام وخدمة الصحة القومية، لكنها «عفاريت» ذات اعتبار وتقدير كبيرين بين القاعدة التقليدية لناخبي «العمال». لكن ستارمر يعتمد على كثرة نوابه (404) لتغلب شجاعة قلة من النواب اليساريين، خصوصاً بعد بداية غير موفقة في الأشهر الأولى لحكومته، بسياسات كإلغاء معونة البرد الشتوية للمتقاعدين، وإلغاء الإعفاءات الضريبية على مصروفات المدارس الخاصة، وفرض ضرائب على المزارع أنهت شعبية «العمال» في معظم أنحاء الريف.