: آخر تحديث

لبنان والمواجهة مع إسرائيل

1
1
1

ثمّة معضلة حقيقيّة تواجه لبنان عقب التحولات الكبرى التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وحربي إسرائيل على قطاع غزة والجنوب اللبناني، تتصل بالقدرة الجديّة على التعامل مع الواقع الجديد على ضوء الاختلال الكبير في موازين القوى لمصلحة إسرائيل التي صارت بمثابة شرطي المنطقة الذي يملك اليد الطولى القادرة على ضرب أي هدف في مثلث لبنان - سوريا - فلسطين، دون إذن من أحد، وعمليّاً دون اعتراض من أحد.

وما التوغل العسكري العميق الذي قامت به القوات الإسرائيليّة عقب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024 داخل الأراضي السوريّة، كما احتفاظها بنقاط استراتيجيّة خمس في جنوب لبنان، ولو بصفة «مؤقتة» كما تدّعي، سوى بعض النماذج عن المسار الجديد الذي تنوي إسرائيل سلوكه، ومن ثم تكريسه، في إطار حفاظها على تفوّقها العسكري في المنطقة دون منازع.

لبنانيّاً، لا مناص من الاعتراف بأن الصيغة السابقة التي بُني عليها «توازن الردع»، إذا جاز التعبير، سقطت في الحرب الأخيرة من خلال الاختراق الواضح لـ«حزب الله» واستهداف صف القيادات العليا بأكمله تقريباً، وصولاً إلى الأمين العام السيد حسن نصر الله، بما فاق التوقعات أو المتخيل عند الكثير من اللبنانيين كما عند مؤيديه، فضلاً عن تفجير أجهزة «البيجر» واللاسلكي التي طالت الكوادر الوسطى كلها تقريباً.

وثمّة من يقول إنه لو لم يدخل «حزب الله» إلى تلك الحرب من خلال عنوان «إسناد غزة»، فلعله كان قد حافظ على ذاك التوازن بديلاً عن حالة الانكشاف الكامل التي وقع فيها كما جرّ لبنان إليها. وإذا كان «حزب الله» قد صدّ التقدّم البري للقوات الإسرائيليّة (بتكاليف باهظة في البشر والحجر) وأجهض إمكانيّة وقوع جنوب لبنان بكامله تحت الاحتلال أسوةً بغزوات إسرائيليّة سابقة، إلا أنه من الواضح أن المعادلة تغيّرت برمتها وبات لبنان أمام واقع جديد بالكامل.

الأهم من القراءة العسكريّة لمنعطفات النزاع بين «حزب الله» وإسرائيل (على أهميتها) هو الترجمة السياسيّة لوقائع المعركة التي تتمثّل بخلق أمر واقع جديد على أرض الجنوب وفي كيفيّة التعامل اللبناني مع الاحتلال، وتحديد سبل المواجهة بما يحفظ السيادة اللبنانيّة التي لا تزال تتعرّض لانتهاكات إسرائيليّة يوميّة في البر والبحر والجو حتى بعد وقف إطلاق النار، إذ تواصل إسرائيل انتهاك هذا الاتفاق بشكل متواصل فضلاً عن تمنّعها عن الانسحاب الكامل من جنوب لبنان وفقاً للاتفاق إياه.

وإذا كانت تجربة المقاومة العسكريّة قد سقطت في الميدان جرّاء التطورات الأخيرة، فإن تجربة الركون حصراً إلى الدبلوماسيّة ليس مؤكداً أنها سوف تحقّق النتائج المرجوة منها، ولو أن الإفراج عن الأسرى أعطى بصيص أمل بإمكانيّة تحقيق نتائج فعليّة من خلال سلوك هذا المسار، خصوصاً إذا ما توفّر دعم أميركي للبنان يُتاح من خلاله إثبات جدوى هذا الطريق الوعر.

تاريخياً، لم تثمر المسارات الدبلوماسيّة تحقيق الكثير من النتائج. فقرار مجلس الأمن الدولي رقم «425»، الصادر عام 1978، عقب الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان، لم يُنفّذ إلا عام 2000، وتنفيذه لم يكن نتيجة جهود دبلوماسيّة يومذاك وإنما نتيجة عمل نضالي تراكمي بدأ من قبل عدد من الأحزاب الوطنيّة اللبنانيّة. والانتهاكات الإسرائيليّة للبنان منذ نيله استقلاله الوطني سنة 1943 تكاد لا تُعد ولا تُحصى. كما أن الشكاوى الكثيرة التي رفعها لبنان إلى الأمم المتحدة لم تثمر يوماً نتيجة عمليّة.

طبعاً، هذا لا يعني تخلّي لبنان عن هذه الورقة، أي ورقة اللجوء إلى المحافل الدوليّة لرفع الصوت وسلوك درب الدبلوماسيّة، للمطالبة بالحقوق المشروعة والحفاظ على السيادة، فهذا من حقه بصفته دولة مستقلة ذات سيادة، ومن واجبه القيام به حتى ولو كانت مساراته النهائية غالباً مقفلة ودون نتيجة تُذكر.

ويبدو للكثير من اللبنانيين، وربما عن حق، أن هذا الخيار هو الوحيد المتوفر إزاء الغطرسة الإسرائيليّة وفائض القوة الذي باتت تمتلكه، وإزاء الدعم الأميركي والغربي غير المسبوق والمتواصل بما يحسم دون أي جدال التفوّق العسكري الإسرائيلي في المنطقة. وهذا يجعل لبنان، الدولة التي تمتلك قدرات عسكريّة محدودة، غير قادرة عمليّاً على المواجهة المباشرة مع إسرائيل، وهذا مفهوم (وربما ليس مبرراً).

فإذا كانت الدبلوماسيّة لا تحقّق النتائج المرجوة، والمقاومة أيضاً لم تحقّق النتائج المطلوبة، فما السبيل إذن لمقاربة هذه القضيّة الوطنيّة الشائكة والخطيرة؟ وكيف يمكن للبنان، البلد الصغير والمسالم، مواجهة هذه الرياح العاتية والمتغيرات العميقة خصوصاً أن مناخاته الداخليّة تجنح نحو الكثير من الانقسامات الوطنيّة حول بعض الخيارات الاستراتيجيّة الكبرى؟

الخطوة الأولى تكون بالالتفاف حول الدولة؛ لأنها تبقى الملاذ الوحيد الذي يفترض أن يجتمع حوله اللبنانيون بمختلف مشاربهم، والخطوة الثانية تكون بدراسة شاملة حول سبل المواجهة من خلال صياغة خطة وطنيّة للدفاع تمكّن لبنان من تجميع كل الطاقات المتوفرة والاستفادة منها للحفاظ على حدوده وأمنه وسيادته واستقراره، والأهم الحفاظ على وحدته الوطنيّة التي غالباً ما تجيد إسرائيل اللعب على تناقضاتها وتغذية الخلافات لإسقاطها.

صحيحٌ أن لبنان كان دائماً في قلب العاصفة، ولكن هذه المرة العاصفة أقوى من كل مرة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد