ذهب بشار الأسد ضحيّة “وحدة الخسارات”، بعدما آمن بتلك النكتة السمجة التي سمّيت “وحدة الساحات”. ذهب في الواقع ضحيّة ضحالة فكره السياسي ووقوعه منذ اليوم الأوّل الذي خلف فيه والده، في أسر “الحزب” الذي حوّل الراحل حسن نصرالله إلى الشخص المسيطر عليه، وعرابّه الحقيقي.
جعله هذا العرّاب، الذي وقع بشّار الأسد في سحره، يقول مرّة أمام مسؤولي الأجهزة الأمنيّة السورية في حضور حسن نصرالله نفسه، مشيراً إليه بيده: “هذا الرجل يستطيع المجيء إليّ من دون موعد، لأنّني لا أثق بأيّ منكم”.
أمتلك هذه الرواية من مصدر أثق به كلّياً. كان هذا المصدر نبّهني إلى مدى اعتماد بشّار الأسد على حسن نصرالله، وبالتالي على إيران، عندما روى كيف أنّ الأمين العامّ السابق لـ”الحزب” حضر إلى القرداحة في حزيران من عام 2000، مباشرة بعد وفاة حافظ الأسد، لتعزية بشّار بوالده.
كان المصدر حاضراً في القرداحة وكان يراقب وجه بشار وعلامات القلق البادية عليه. مع حضور حسن نصرالله تغيّر بشّار، خصوصاً أنّ الأوّل أتى إلى القرية، التي يتحدّر منها حافظ الأسد وأفراد عائلته، برفقة العشرات من المقاتلين. أدّى هؤلاء في ساحة القرداحة عرضاً عسكرياً من دون حمل السلاح. كان ذلك كافياً كي يتبدّل شكل وجه بشّار الأسد الذي بدت علامات الارتياح عليه.
على حدّ قول مصدري، “اكتشف بشّار الأسد يومذاك أنّ لديه من يستطيع الاعتماد عليه في ظلّ التجاذبات التي حصلت داخل سوريا في مرحلة مرض حافظ الأسد وفي السنوات التي هيّأ فيها بشّار لخلافته”. ليس سرّاً أنّ تلك الأيام شهدت استبعاداً لقيادات علويّة ذات نفوذ تقليدي في المؤسّسة العسكرية، كعلي حيدر وعلي دوبا مثلاً، وإبعاد رئيس الأركان حكمت الشهابي والحدّ من النفوذ السياسي لعبد الحليم خدّام.
من ورّط الآخر في اغتيال الحريري؟
رحل بشّار الأسد، واغتيل قبل ذلك حسن نصرالله، من دون جواب واضح عن سؤال: مَن ورّط الآخر في اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005؟ ما كان بشّار الأسد ليتورّط في القرار الإيراني باغتيال الحريري، بكلّ ما يرمز إليه لبنانياً وعربيّاً ودولياً، لولا وقوعه تحت تأثير حسن نصرالله من جهة، وحقده على بيروت ومن أعاد الحياة إليها وإلى لبنان من جهة أخرى.
لم يبقَ بشّار في السلطة بعد الثورة الشعبيّة السوريّة في آذار من عام 2011 إلّا بفضل الدعم الإيراني أوّلاً، ثمّ الدعم الروسي ابتداء من أواخر أيلول 2015. وقتذاك أرسلت “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى موسكو قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” للاستنجاد بفلاديمير بوتين بعدما فشل “الحزب” في حماية الديكتاتور السوري، الذي اعتقد أنّ في استطاعته اللعب على كلّ الحبال، في حين أنّه أسير الحبل الملتفّ على رقبته منذ اليوم الأوّل لخلافته والده صيف عام 2000. لعب سلاح الجوّ الروسي دوراً محورياً في حماية بشار وإبقائه في دمشق.
ضحيّة الحال المرضيّة
لكنّ بشّار راح قبل كلّ شيء ضحيّة شخصه والحال المرضيّة التي يعاني منها، والتي جعلته يشنّ حرباً على شعبه مستخدماً البراميل المتفجّرة، عندما اكتشف أنّه لم يعد في استطاعته اللجوء إلى السلاح الكيميائي، كما حصل في آب من عام 2013.
قصف بشّار بالكيميائي في 2013 مواقع مدنيّة في غوطة دمشق. قتل المئات، لكنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما غضّ الطرف عن هذا العمل البربري بغية استرضاء إيران.
كانت إيران في تلك المرحلة في مفاوضات سرّية مع الأميركيين تمهيداً للاتّفاق في شأن ملفّها النووي، وهو اتّفاق وُقّع في تموز من عام 2015 في صفقة كان الدم السوري من بين مكوّناتها.
جاء هجوم “طوفان الأقصى” الذي شنّته “حماس” – يحيى السنوار على مستوطنات إسرائيلية في غلاف غزّة ليقضيَ على “وحدة الساحات” وليكشفَ أنّها لم تعد موجودة. لم تكن حرب “إسناد غزّة” سوى حرب القضاء على “الحزب” تمهيداً للقضاء على نظام بشّار الأسد الذي تظاهر بالموت.
تبيّن بكلّ بساطة أنّ بشار الأسد لم يستطع في أيّ وقت الخروج من الأسر الإيراني الذي منعه من الاستماع إلى النصائح الروسيّة بالتطبيع مع تركيا وعقد لقاء مع الرئيس رجب طيب إردوغان. إلى ذلك، لم يحُل تظاهره بالموت دون استمرار تمرير السلاح الإيراني إلى “الحزب” في لبنان… وتهريب السلاح إلى الأردن والمخدّرات إلى دول الخليج، عبر الأردن أيضاً.
دفعا ثمن إزهاق دم الحريري
بعد 19 عاماً وبضعة أشهر، دفع بشّار الأسد ثمن تورّطه في إزهاق دم رفيق الحريري. تبيّن أنّ دم رفيق الحريري عبء ثقيل. قبله دفع حسن نصرالله، الذي وثق به رفيق الحريري، بكلّ أسف، ثمن هذا الدم أيضاً. لم يكن رفيق الحريري يعرف تماماً طبيعة العلاقة بين بشّار وحسن نصرالله اللذين كانا يتآمران عليه وعلى لبنان. لكنّه كان يعرف تماماً حجم حقد الرئيس السوري السابق عليه.
التقيت رفيق الحريري في بيته في قريطم مساء السبت، قبل أقلّ من 48 ساعة من اغتياله. نقلت إليه كلّ المخاوف التي توافرت لديّ من احتمال استهدافه. كان جوابه: “هل النظام السوري عاقل أم مجنون؟ من سيغتالني مجنون”. أجبته أنّ “هذا النظام عاقل، من حيث المبدأ، لكنّ قرار بشّار بالسير في تمديد ولاية إميل لحّود، رئيس الجمهوريّة (آنذاك)، يجعلني أشكّ في أنّه لا يزال عاقلاً”.
رحل بشّار الأسد. عاد الأمل إلى سوريا وعاد الأمل بإمكان قيامة لبنان، لكنّ ذلك لا يزيل المخاوف الناجمة عن سيطرة “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقاً) على سوريا، وبروز أبي محمد الجولاني الذي كشف عن اسمه الحقيقي (أحمد الشرع). هل يكون أحمد الشرع غير أبي محمّد الجولاني الموجود على لائحة الإرهاب الأميركيّة؟ هل يكون أقلّ جنوناً من بشّار الأسد بفضل العلاقة الوثيقة التي تربطه بتركيا؟