خيرالله خيرالله
رحل حسن نصرالله، وحل مكانه نعيم قاسم، كأمين عام لـ«حزب الله». الفارق بين الرجلين أنّ حسن نصرالله كان خطيباً مفوّهاً يمتلك القدرة على إقناع جمهوره وما يتجاوز جمهوره. كانت أيضاً لنصرالله كلمته في طهران وبغداد ودمشق وصنعاء، فيما نعيم قاسم، الذي لم يكن له يوماً أي دور حقيقي على الأرض اللبنانيّة وخارج لبنان، بات مجرّد واجهة لـ«الحرس الثوري» الإيراني.
في الواقع، فرضت الأحداث الأخيرة تولي «الحرس الثوري» إعادة تشكيل «حزب الله» في ضوء الضربات التي تلقاها. كان لافتاً إصرار نعيم قاسم، في الخطاب الأوّل الذي ألقاه كأمين عام، على طمأنة جمهور الحزب إلى أن الجيل الجديد من القادة الميدانيين قادر على متابعة المسيرة. لم يحدّد ما هي هذه المسيرة وما الفائدة، أصلاً، من حرب عبثيّة مع إسرائيل لم تأتِ على البلد وأهله، بمن في ذلك أبناء الطائفة الشيعية، سوى بالخراب والدمار والتهجير.
الأكيد أن الكلام الوارد في الخطاب الأوّل لنعيم قاسم كان للاستهلاك الداخلي، خصوصاً أن أي لبناني، أكان شيعياً أم من مذهب آخر أو طائفة أخرى، يدرك جيداً أن وضع «حزب الله» تغيّر كلياً وأنّه يصعب عليه استعادة وضعه السابق في ضوء سلسلة الضربات التي تلقاها.
في النهاية، ظهر أن هناك انكشافاً تاماً للحزب أمام الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية التي استطاعت اغتيال كلّ القادة الحقيقيين الذين كانوا يمثلون القوّة غير المكشوفة للحزب.
تغيّر «حزب الله» ولم تتغيّر إيران التي ترفض أخذ العلم بما فعلته في لبنان. أكثر من ذلك، لاتزال «الجمهوريّة الإسلاميّة» مُصرّة على بقاء جنوب لبنان «ساحة» تعتقد أن في استطاعتها استخدامها في لعبة التوصّل إلى صفقة مع «الشيطان الأكبر» الأميركي تكرس دورها الإقليمي المهيمن وتسمح لها بمتابعة السير في مشروعها التوسعي.
يشمل المشروع العراق وسورية ولبنان واليمن وأي أماكن أخرى في الخليج وشمال أفريقيا يمكن أن تصل إليها يدها.
يؤكد التوجه الإيراني القديم - الجديد فشل الوساطة الفرنسية في إقناع طهران بأن عليها القبول بانسحاب لمقاتلي «حزب الله» إلى ما وراء نهر الليطاني. تشير معلومات واردة من طهران إلى أن «الجمهوريّة الإسلاميّة» باتت تقبل تقدّم وقف النار في لبنان على وقف النار في غزّة، لكنها ترفض أي تراجع لمقاتلي «حزب الله». بكلام أوضح، تريد إيران استمرار القتال في جنوب لبنان بغض النظر عن عدد القرى والبلدات التي تتعرّض لدمار كلّي وبغض النظر عن نزوح سكان هذه القرى والبلدات من بيوتهم.
متى تتغيّر إيران؟ متى تعود دولة طبيعيّة لا حاجة لديها إلى «حزب الله» والأدوات الأخرى من ميليشيات تنفّذ سياسات معيّنة تحت شعارات فارغة من نوع «المقاومة والممانعة»؟
يغيب عن ذهن المسؤولين الإيرانيين حالياً أنّ المشروع التوسعي لـ«الجمهوريّة الإسلاميّة» في حال تراجع، أكان ذلك في العراق أو سورية أو لبنان... أو اليمن. لا يمكن وقف هذا التراجع من دون الاعتراف بأن على النظام الإيراني الاهتمام بالمشاكل الداخليّة للبلد وأزماته المستعصية بدل الهرب الدائم منها عبر رفع شعار «تصدير الثورة» إلى إشعار آخر، ليس لدى إيران ما تصدره على الرغم من أن الحضارة الفارسية حضارة قديمة متميّزة. يؤكد ذلك ما حلّ من بؤس بكل بلد حلّت فيه إيران مباشرة أو عبر ميليشياتها كما حال لبنان. يظلّ لبنان، الذي ينهار يومياً أكثر، نموذجاً للسلوك الإيراني الذي يرفض أن يتغيّر.
على سبيل المثال وليس الحصر، ترفض «الجمهوريّة الإسلاميّة» التفسير المنطقي للاتفاق الذي توصلت إليه مع المملكة العربيّة السعودية في بيجينغ (بكين) في مارس من العام 2022، وهو اتفاق ينص صراحة على وقف تدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. رفضت إيران التقيد بمضمون الاتفاق واعتبرت أن الأمر محصور بعدم التدخل في الشؤون السعوديّة... في حين يظلّ لبنان وسورية والعراق مسألة مختلفة. لدى إيران تفسيرها الخاص في هذا الشأن.
تكمن مشكلة «حزب الله» بأنّها مشكلة أجندة قبل أي شيء. لا أجندة لدى الحزب سوى الأجندة الإيرانيّة. معنى ذلك، أن الحزب يرفض الاعتراف بأنّ عليه أن يأخذ في الاعتبار مصلحة لبنان واللبنانيين والعمل في هذا الاتجاه. لا يمكن للحزب الفصل بين مصلحة لبنان واللبنانيين من جهة ومصلحة «الجمهوريّة الإسلاميّة» التي لا يهمها ما يحلّ بلبنان من جهة أخرى.
سيظلّ الحزب يقاتل إلى اليوم الذي لا يبقى فيه حجر على حجر في أي قرية جنوبيّة أو بقاعيّة. لا جواب لدى نعيم قاسم، مثلما لم يكن من جواب لدى حسن نصرالله، عن سبب ربط مصير لبنان بمصير غزّة الذي حسمت إسرائيل أمرها عندما دمرت الجزء الأكبر من القطاع، الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتراً مربعاً فقط، وهجرت مليونين من أهله في أقلّ تقدير...
متى تتغيّر إيران؟ الأكيد أنّها ستتغيّر، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ كلّ رهاناتها سقط، بما في ذلك الرهان على بقاء «حزب الله» متحكّماً كلّياً بلبنان. كان الحزب إلى ما قبل سنة يحكم لبنان ويمتلك قرار الحرب والسلم فيه. صار جزءاً لا يتجزّأ من أزمة وجودية يعاني منها البلد الذي يمكن وصفه بأنّه ضحية أخرى من ضحايا إيران.