أحمد محمد الشحي
الصداقة علاقة إنسانية اجتماعية راقية، وهي علاقة طويلة المدى قائمة على مبدأ الاستدامة والوفاء بين الصديقين، وإن باعدت المسافات بعد ذلك بينهما، فحبل الود لا ينقطع، وحرارة المحبة كالشعلة الوقادة لا تنطفئ، فالصداقة لا تعني مجرد الشعور بالرفقة وتجنب العزلة، بل هي أعمق من ذلك حقيقة وأثراً، ولذلك قيل: الصديق هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الإطار العملي بقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وأكد العلماء والحكماء فضل الصداقة ومكانة الصديق، فقال بعضهم: «اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعُدَّة في الشدة، ومعونة على خير المعاش والمعاد».
والصداقة مواقف تترجم على أرض الواقع بين الصديقين، أساسها الصدق والوفاء والمعاونة، فهي خصال جوهرية لا تتم الصداقة ولا تكتمل إلا بها، ومن آداب الصداقة كتمان السر، وستر العيوب، وتوقير الصديق في حضوره، ودفع أي كلام سيئ يقال عنه في غيبته، والفرح بما ينال من خير، ومواساته والوقوف معه إذا أصيب بشدة وكرب، فالصديق يحيط صديقه بالرعاية والعناية في كل أحواله وظروفه، في رخائه وشدته، وفي قوته وضعفه، وفي حضوره وغيبته، بل وفي الدعاء له في حياته وبعد مماته، ورجاء الاجتماع به يوم القيامة مع المتحابين في الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء»، وهكذا تعكس الصداقة مواقف عملية يتحلى بها الصديق تجاه صديقه في أي زمان وأي مكان.
ومن حقوق الصديق على صديقه حسن المعاملة عند لقائه، والتبسط إليه، وأن يبدأه بالسلام عند إقباله، وأن يوسع له في المجلس، وأن يصمت عند كلامه حتى يفرغ منه، ويحسن الإصغاء إليه، ويهديه من أطايب الكلام ما يسر به، وأن يضمر في قلبه مثل ما يظهره له، فيكون صادقاً في وده سراً وعلانية، وإذا كانت لديه نصيحة نصحه بغاية اللطف، منتقياً أحسن عبارة، سراً دونما ثالث، كما قال الشاعر:
وإذا وجدتُ على الصديق شكوتهُ سراً إليه وفي المحافل أشكرُ
ولما كانت الصداقة علاقة إنسانية فهي كأي علاقة أخرى، ليست بمنأى عن التحديات والخلافات الطارئة التي قد تعترض طريقها، كما تحدث بين أقرب قريبين، ولذلك تأتي هنا مواقف الصديق في المحافظة على هذه العلاقة والتغلب على التحديات، وبمقدار امتلاك كل طرف للحكمة وسعة الصدر وإحسان الظن والنصيحة بالحسنى والتفاهم والتحاور والتسامح والتنازل تنطفئ هذه المشكلات، ومما يحتاجه الصديقان هنا مبدأ الاستيضاح وعدم الاستعجال في تكوين تصور مسبق بناء على موقف عابر أو كلمة خاطفة صدرت من الصديق، وقد لا يكون لهذا التصور أي أساس من الواقع سوى الأوهام والتحليلات المبتورة، فيقع الإنسان في سوء الظن، وقد يبني على تصوره الخاطئ أحكاماً ومواقف عملية يندم عليها لاحقاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».
ومما يحتاجه الصديقان كذلك لاستدامة الصداقة بينهما ضبط النفس والتحكم بالانفعالات، فكم أفسد الغضب من علاقات، وكم قطع من أحبال صداقات، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستنصحه فقال: «لا تغضب» وكرر عليه ذلك مراراً، ومما يعين على ذلك النظرة الموضوعية إلى طبيعة الصديق، فهو إنسان يصيب ويخطئ، فصدور شيء من الهفوات منه أمر متوقع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، وإذا كان من المرغوب فيه مع العدو دفع إساءته بالحسنى لعله يلين، فتنقلب عداوته إلى صداقة حميمة، كما قال عز وجل: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}، ومن جميل المقولات: «ما عاملت أحداً عصى الله فيك بأحسن من أن تطيع الله فيه»، فمن باب أولى التحلي بهذا الخلق الرفيع مع الصديق، لتزداد الصداقة قوة ومتانة.
إن الصداقة مواقف وبصمات، يجدها كلٌّ من الآخر واقعاً عملياً ملموساً، في مختلف الظروف والمواقف، تترجم صدق ما في النفوس من مشاعر وألفة ومحبة، لتستمر في الحاضر، وتبقى ذكرى خالدة جميلة في المستقبل، يرجو كلٌّ من الصديقين أثرها في الدنيا والآخرة.