حاتم البطيوي
من يتذكر هذه الأيام الدكتور محمد عزيز الحبابي، الفيلسوف والروائي والشاعر المغربي؟ فقد مرت يوم 23 آب (أغسطس) الماضي الذكرى الثلاثون لرحيل رائد التأليف الفلسفي في المغرب الذي ارتبط اسمه بمذهب "الشخصانية الواقعية".
تظل سيرة الحبابي غنية وزاخرة بالمسارات؛ فهو إلى جانب كونه أول مغربي يحصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة من جامعة السوربون في باريس عن أطروحة عنوانها: «من الكائن إلى الشخص» سنة 1954، أسس اتحاد كتاب المغرب في بداية عقد الستينات من القرن الماضي والجمعية الفلسفية المغربية. كما كان عضواً في أكاديمية المملكة المغربية وعضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية في القاهرة. وتوج أميراً للقصة في مقر بلدية باريس عام 1982 بحضور الرئيس الراحل جاك شيراك، أيام كان عمدة للعاصمة الفرنسية، والشاعر الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سنغور. وكان أيضاً أول عميد لكلية مغربية (كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط)، بعد استقلال البلاد، وأول عربي كذلك يرشح لجائزة نوبل للآداب (1987)، بينما يعد الروائي المصري نجيب محفوظ أول عربي يفوز بها (1989). وهو إلى ذلك أول وآخر آديب ومفكر مغربي تكتب له أميرة مقدمة ديوانه.
يتعلق الأمر بديوان "بؤس وضياء" الذي صدرت طبعته الأولى في باريس عام 1958، وترجمه الحبابي إلى العربية، وصدر لاحقاً عن دار "عويدات" في بيروت. فقد كتبت مقدمته الأميرة الراحلة لالة عائشة، كريمة الملك الراحل محمد الخامس وشقيقة الملك الراحل الحسن الثاني.
وعلى رغم هذا الزخم الكبير، لا أحد، للأسف، يتذكر هذا الرجل المبدع الذي قدم الكثير للثقافة المغربية، وكأن الناس أصبحت بلا ذاكرة. لكن يظل الأمل قائماً في أن يحتفى به في مئوية رحيله، بعدما أغفلت عام 2022 مئوية ولادته (25 أيلول /سبتمبر 1922).
وحدها مدينة أصيلة المغربية خلدت ذكراه بإطلاق اسمه على الحديقة المقابلة لمكتبة الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز.
أتذكر أنني عرفت الحبابي، وأنا فتى يافع، في وقت كان مواظباً على حضور فعاليات مواسم أصيلة الثقافية منذ انطلاقتها عام 1978 برفقة زوجته الدكتورة فاطمة الجامعي ونجله الوحيد عادل الذي يعمل حالياً في وزارة الخارجية المغربية.
تحمس الحبابي لتجربة موسم أصيلة الثقافي منذ بدايته، معتبراً أن ما يبنيه محمد بن عيسى لا يهم الجانب الثقافي وحده، بل يشمل كل المجالات التي تهم حاضر المدينة ومستقبلها، وأيضاً مستقبل الثقافة في المغرب عامةً. كما رأى أن حجة الاختلاف في الرؤية الثقافية تجاه الموسم خلال سنواته الأولى من لدن كثير من مثقفي اليسار وبعض من مثقفي اليمين، غير ذات جدوى ولا تفيد في تحقيق نهضة الثقافة المغربية.
لم يكن الكثيرون يعلمون عن شغف الحبابي الكبير بالزوايا الصوفية، وهو أمر جذبه إلى أصيلة وموسمها الثقافي، الذي كان يعتبره "جدبة (شطحة) صوفية وفكرية"، مع الأخذ في الاعتبار الحمولة الصوفية لكلمة "الموسم".
إن أضرحة الأولياء الصالحين يسميها المغاربة "زوايا"، ومن ثم فإن كل أسرة تنتمي إلى طريقة صوفية لها "زاوية"، وبالتالي فإن لهم مواسم يحتفون بها، وفق عادات وطقوس خاصة بكل منطقة.
نشأ الحبابي في بيئة صوفية في فاس، ومن هذه الأجواء انتقل إلى باريس لدراسة الفلسفة، مؤمناً بأنها أساس كل إصلاح في العالم، وبأن الشعوب التي لم تدرس الفلسفة ستظل متخلفة إلى الأبد. وعلى رغم ذلك، بقي الحبابي فيلسوفاً يحترم العادات والأعراف، ومن هنا جاء تأسيسه ما سماه "الشخصانية الواقعية"، كاتجاه فلسفي في العالمين العربي والإسلامي وحاول تقديم فلسفة تتلاءم مع واقعهما. وفي مقالة للكاتب المغربي محمد الفاهم نُشرت عام 2023 في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية بعنوان: "الحبابي والفلسفة الشخصانية"، اعتبر أن الشخصانية الواقعية للحبابي، على رغم جذورها الغربية المرتبطة بإيمانويل مونيه، إلا أنه نجح في تبييء أفكارها، بما يناسب واقع شعوب العالم الثالث، والعالم العربي على وجه الخصوص.
ثمة محطات أخرى في حياة الحبابي، لا بد من الوقوف عندها، من قبيل أنه كان أول فيلسوف عربي مغربي يزرع بذور مد الجسور مع غرب أفريقيا وزواياها الصوفية المتعددة ومن ثم مع الغرب.
كما أنه كان معجباً بالجانب الثقافي والفكري لدى بعض السياسيين المغاربة، مثل علال الفاسي وعبد الكريم غلاب وعبد الرحيم بوعبيد وآخرين، لكن لا أحد منهم استطاع أن يستقطبه للانتماء إلى حزبه. فهو لم يكن ينظر بارتياح إلى العمل الحزبي، وكان يفضل عليه الجدبة الصوفية والفكرية و"الزوايا".
معروف عن الحبابي أيضاً أنه كان مزدوج الثقافة، ضليعاً باللغتين العربية والفرنسية، ولديه معرفة ودراية عميقتين بالغرب، ولذلك كان يكتب من موقع العارف المطلع.
لم تكن الإشادة بـ"الزوايا" والجدبة الصوفية والفكرية، تشكل له أي عقدة، خلافاً لكثير من المثقفين الذين كانوا يحرصون على الظهور بالصورة التي يريدها الآخر أي الغرب.
الحبابي هو أيضاً مفكر استشرف المستقبل وألف كتاباً عنوانه "عالم الغد: تحديات العالم الثالث".
أذكر في هذا السياق لقاءً نظمه النادي العربي في لندن، مساء يوم الأربعاء 14 شباط (فبراير) 1990 تحدث فيه الحبابي عن آفاق المستقبل، وتناول في محاضرته مفهومي الأصالة والمعاصرة، معتبراً أن الجدال حولهما يجند التباكي على الماضي. كما تساءل: "هل لنا اليوم باحثون وعلماء؟"، ليجيب بأن معظمهم للأسف، محققون منشغلون بتحقيق المخطوطات التراثية، وكأن التراث هو كل شيء، ليصل إلى القول: "إننا بذلك لا نعيش في زماننا".
في تلك الأمسية صدح الحبابي بحقيقة مرة، هي أن مصطلح "شعوب في طريق النمو"، هو كذب محض، لكنه استدرك قائلاً إنه ليس متشائماً بل متفائل، لكونه يستطيع أن يقول الحقائق، ومن يقول الحقائق، فينظره، هو متفائل بمستقبل أفضل.