ماجد كيالي
تنطلق السرديات الشعبوية السائدة، والتي روّجتها وغذّتها الأنظمة القومية، من فكرة متخيّلة تفيد بأن البلدان العربية تحرّرت من الاستعمار بفعل حركات المقاومة المسلحة، وبأن تاريخ تلك البلدان، في الحقبة الاستعمارية (النصف الأول من القرن الماضي)، هو تاريخ النضال المسلح ضدّ الاستعمار.
والحقيقة، أن هذا الخطاب الاختزالي كان الغرض منه حجب التاريخ الواقعي للمجتمعات العربية، والقطع مع الكفاح السياسي الذي كان يسم تلك المرحلة من تاريخها، بخاصة الحقبة التي أعقبت الاستقلال، والتي اصطلح على تسميتها تجاوزاً بالحقبة الليبرالية.
وبالمعنى المباشر، كان ذلك الخطاب يُستخدم لتبرير السياسات "التثويرية" لتلك الأنظمة، لصرف أنظار مجتمعاتها عن المشكلات التي تعيشها، وتعزيز روح العداء للغرب (الاستعماري) بما هو غرب، بما يصل لمعاداة تجربته في الحداثة والعقلانية والديموقراطية، باعتبار أن كل مصائبنا تنبع من الخارج، وليس من مكامن النقص عندنا، ما تعززه وتعيد إنتاجه الأنظمة الاستبدادية.
وكما شهدنا، كان ثمة استجابة واسعة، في الأوساط الشعبية، لتلك الخطابات: أولاً، بسبب هيمنة تلك الأنظمة على جهاز التعليم ووسائل الإعلام والفضاء العام؛ وثانياً، بسبب النكبة الفلسطينية وظهور إسرائيل (1948)، مع التحدّي الذي مثلته للعالم العربي في هذه المنطقة؛ وثالثاً، بسبب تغييب الحياة السياسية، لا سيما في بلدان المشرق العربي التي تحكّمت بها الأيديولوجية البعثية؛ ورابعاً، بسبب انتشار الأمية، بمعناها الحرفي والعام أيضاً، ما جعل السياسة في هذه البلدان عملاً يتعلق بالشعارات والعواطف فقط.
ليس القصد من ذلك القول إن العالم العربي خلا من المقاومات المسلحة التي كافحت الاستعمار، وإنما القصد وضع هذه التجارب في مكانتها الصحيحة، من دون مبالغات وأوهام، ومن دون توظيفات سياسية ليست في محلها.
هكذا، فإن البلدان العربية، باستثناء الجزائر، كانت قد حصلت على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، أي بسبب تغيّر الظروف الدولية، ومنها التغيّرات السياسية الحاصلة في البلدان الأوروبية، وأيضاً بسبب تغيّر وسائل السيطرة والتحكّم في العالم من الوسائل العسكرية المباشرة إلى الوسائل الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية.
أما بالنسبة إلى تجارب المقاومة المسلحة في تلك البلدان، فيمكننا ببساطة ملاحظة أن معظم مجتمعاتنا العربية، باستثناء مصر وربما تونس، لم تكن قد تبلورت على الصعيد الهوياتي، بسبب ضعف التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها، علماً أنها بلدان كانت قد خرجت من رحم الامبراطورية العثمانية التي حكمتها 400 سنة، ووجدت نفسها فجأة تخضع للوصاية الاستعمارية، مع كل الصدمات التي نجمت عنها، وضمنها صدمة الحداثة. وعليه، فإن هذه البلدان لم تستطع في تلك الفترة القصيرة، والتي تعد بثلاثة أو أربعة عقود، أن تنتج أو أن تبلور حركاتها وأحزابها السياسية التي تحظى بقبول شعبي واسع، على غرار حزب الوفد في مصر، مثلاً، فكيف لها، وهذه حالها، أن تنتج حركات مسلحة إذاً؟
ومن تفحّص تاريخ الكفاح ضدّ الاستعمار في البلدان العربية، يمكننا ملاحظة أن تجارب الكفاح المسلح، مع كل التقدير لها، كانت محليّة أو محدودة من حيث المكان والزمان، ومن حيث الإجماع الشعبي. وهذا ينطبق على حركات عبد الكريم الخطابي في المغرب (1921-1926)، وعمر المختار في ليبيا (1911-1931)، وسلطان باشا الأطرش وابراهيم هنانو وحسن الخراط في سوريا (1925-1937)، والثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، وعبد القادر الجزائري في الجزائر (1832-1847)، وقد احتاجت الجزائر 10 عقود لإعلان الكفاح المسلح (1954)، علماً أنه لا توجد تجارب مماثلة في البلدان الأخرى، كتونس أو مصر أو لبنان أو الأردن أو العراق أو السودان أو موريتانيا أو الدول الخليجية، وعلماً أن الجزائر نالت استقلالها متأخّرة عن مثيلاتها العربية، بعد 8 سنوات من قيام جبهة التحرير وإطلاقها الكفاح المسلح. وذلك تمّ، أيضاً، بسبب التغيّرات الدولية والإقليمية، وأفول الاستعمار.
لنلاحظ، أيضاً، أن أياً ممن ذكرناهم من أعلام الحركات المسلحة ضدّ الاستعمار (وهو ما ينطبق على قادة الحركات السياسية)، لم يستطع احتلال مكانة الزعامة في الحركة الوطنية في بلده، على غرار ما كان هوشي منه في فيتنام، أو نيلسون مانديلا في أفريقيا، أو المهاتما غاندي في الهند، أو سعد زغلول في مصر، أو الحبيب بورقيبه في تونس، مع كل المكانة التي حظيوا بها في الوجدان الشعبي في بلدانهم. وكما ذكرت، فإن السبب في ذلك يعود إلى حداثة التجربة السياسية، وغلبة المكونات ما قبل الوطنية (العشائرية والطائفية والمناطقية)، وعدم تبلور المجتمعات العربية كوحدات اجتماعية - سياسية - اقتصادية قائمة بحدّ ذاتها، وواعية لذاتها على هذا النحو.
ومن مراجعة تاريخ البلدان العربية في حقبة الاستقلال، في الأربعينات، يمكننا ملاحظة أن ما من بلد تبوأت فيه حركات التحرّر الوطني المسلحة السلطة، وذلك ببساطة لأنه لم توجد حركات كهذه بالمعنى الصحيح للكلمة، وأن القوى التي تبوأت الحكم في تلك الفترة تحدّرت من المدن، وهي القوى ذاتها التي كانت تشتغل على تنظيم الكفاح السياسي ضدّ الاستعمار، والمطالبة بالاستقلال بالوسائل السياسية، ما يعني أن الكفاح السياسي كان السّمة الغالبة في أشكال الكفاح ضدّ الاستعمار في البلدان العربية قاطبة، بما فيها الجزائر التي احتاجت قرناً من الزمان لإطلاق ثورتها المسلحة المعاصرة (1954-1962)، التي جاءت في ظروف عربية ودولية أمّنت لها الدعم وتحقيق النجاح ونيل الاستقلال.
ومع أن السردية الفلسطينية تبدو مختلفة في هذا الإطار، لأن الصراع هنا كان يدور بين الفلسطينيين والاستعمار البريطاني ومشاريع الاستيطان الصهيوني التي استهدفت احتلال الأرض والعمل والتاريخ والرموز وإزاحة الفلسطينيين، إلّا أن التاريخ العام للكفاح الفلسطيني كان يتّسم بالصراع السياسي، باستثناء حقبة 1936-1939، بدليل أن زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية بلا منازع، في تلك الفترة، كان الحاج أمين الحسيني، وليس أياً من قادة الثورة الفلسطينية في الثلاثينات، إذ ظل هؤلاء بمثابة قادة محليين على الرغم من أدوارهم الكفاحية العظيمة، وظلوا يدينون بالولاء للحاج أمين، وللهيئة العربية العليا.
حقاً، لا حاجة لنا البتة لاصطناع تاريخ أيديولوجي ينطوي على المخاتلة والحجب والتلاعب والتوظيف بدل التاريخ الواقعي، لأن التاريخ الأيديولوجي عن الأمة والقومية والأمجاد التاريخية والنضالات المسلحة لا يفيد مجتمعاتنا، لا معرفياً ولا سياسياً، ولا يُساهم في ترشيد نظرتنا إلى أحوالنا وعلاقاتنا بالعصر وبالعالم، بقدر ما يُفيد تلك الأنظمة التي تعيش على تغذية الأوهام في مجتمعاتها، وصرف الأنظار عن المظالم التي ترتكبها، وإحالة كل نكباتنا إلى الخارج.