ليس جديداً ذلك الجدل المثار في بعض الأوساط المعنية بقضايا التعليم حول جدوى بعض فروعه ومدى الحاجة إليها، خاصة مع التطور في التقنية ونوعية الوظائف المتاحة أو المنتظر ظهورها في المستقبل.لدى بعض الفئات قناعة قديمة بأن الفروع الأدبية من التعليم ليست المسار الأمثل؛ فهي لا تؤدي، كنظيرتها العلمية، إلى كليات ومن ثم مهن توصف بالمرموقة كالطب بتفرعاته والهندسة، ويروج البعض أن هذه الفروع لا تتطلب أكثر من حفظ معلومات أثناء الدراسة ثم استرجاعها في الامتحانات، وأن القدرة على الاستظهار هي محل المقارنة بين الطلاب، بينما نظراؤهم الدارسون للمواد العلمية يتمتعون بملكات أكبر، منها التحليل والربط بين الجزئيات والخروج من التفاصيل بنتائج كلية وغير ذلك مما يستلزم إعمال العقل.ورغم أن في هذا التقسيم الجائر تبسيطاً للأمور وجهلاً بطبيعة العلوم بكل أنواعها، فإنه لم يستقر فقط في وجدان الأسر أو الميالين إليه، إذ وجد طريقاً إلى عقول المشتغلين بالتعليم، تنظيراً وتخطيطاً وتطبيقاً، في فترات كثيرة حتى أصبح الخجل يسبق طلاباً وهم يختارون دراسة المواد الأدبية؛ لأنهم قد يوصمون بنقص القدرات.مع تغير شكل الوظائف وعوائدها المادية، ترسخ هذا الاتجاه أكثر، وارتبطت الاختيارات الدراسية بما تدرّه من مكاسب مستقبلاً، لا بما يلائم قدرات كل طالب، وظهر مع ذلك السباق على تخصصات بعينها وإهمال أخرى، خاصة من المرتبطة بالفروع الأدبية والعلوم الاجتماعية كالتربية وعلم النفس والإعلام والفلسفة، ووجدنا تجليات ذلك في بعض الأقطار العربية في قلة الملتحقين ببعض الكليات أو الأقسام، بل انعدامهم في عدد منها، ما انتهى بإغلاقها.لا جدال في أن التخطيط للتعليم ومخرجاته لا ينفصل عن تصور المستقبل واحتياجاته في كل بلد، بل يجب أن يواكب طبيعة كل منطقة فيه واهتمامات سكانها وحاجاتهم الآنيّة والمنتظرة، ولا خلاف على أن تسارع التطور التقني يفرض وظائف ويمحو أخرى، غير أن ذلك لا يعني إنتاج شخصيات لا تملك الحد الأدنى من مقومات السواء والوعي بمحيطها وماضيها وحاضرها، وليس لديها ما لايكفي لإشباع كل احتياجاتها على تنوعها.لا خصومة بين العلوم، وكل سعي إلى ذلك هو افتعال لمشكلة لا حاجة لها، وأية نهضة لا تسير على قدم واحدة، بل إن قيامها ودوامها يلزمهما تكامل في بناء المكوّن البشري. كل بلد يحتاج من أبنائه من يفهم غايات الدين كأساس روحي للشخصية، ومن يدرك معاني التاريخ والجغرافيا، ليس بوصفهما حكايات وخرائط للتســــلية والمشاهدة، وإنما كإطار شامل للانتماء والعلاقة بالعالم، ومن يجتهد في نظريات التربية وعلم النفس والفلسفة والموسيقى والأدب والترجمة. وبديهي أن يحتاج البلد إلى من يحيط بعلوم الطبيعة وتطورها، والتقنية، ويقدر على قراءة مستقبلها وتطويعها لتحقيق الأهداف التنموية. التخصص، حتى في أدق صوره، لا ينفي الحاجة إلى الإلمام بطرف من كل علم، وفهم الواقع وطبائع البشر.
أي العلوم أنفع؟
مواضيع ذات صلة