ما ظهر ابتكار أو وسيط ييسّر حياة الناس حول العالم أو يقرّب بينهم إلا كنّا، في عالمنا العربي، أكثر من يقرنه بالسوء والسلبية إلى حد يخرجه عن طبيعته ويخالف تماماً غايته الأولى. وهكذا أصبحنا معنيين في أمور كثيرة بذكر السلبيات وذمّ سبل الاستخدام والبحث عن طرق لتلافي تبعات ذلك، بينما معظم العالم ينعم بثمار الاستعمال الراشد ويجني مكاسبه على مستويي الدول والأفراد.وما أكثر الجوانب التي ينسحب عليها ذلك في حياتنا، فأرقام ضحايا الحوادث تقول كيف أننا حوّلنا السيارات إلى أدوات طائشة تقتل أكثر مما تنقل، وجعلنا الإسراف في الكماليات عبئاً ينغص الحياة، بدلاً من أن تكون طرقاً لتمتع من يقدر على امتلاكها. وبالإمكان الاسترسال في الأمثلة، غير أن أوقعها تأثيراً ما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي، وقد استحالت في محيطنا منصاتٍ للبغضاء والفُرقة والتنابذ والتشويه والافتراء وقلب الحقائق وخلط الحق بالباطل لإنتاج زيف يصعب، إن لم يستحل، التصدي له فيستقر في أذهان ضعاف العقول والنفوس قبل أن يعاد إنتاجه في ملايين الحسابات.قد نلتمس بعض العذر لمن لا تسعفه قواه للتدقيق والتمحيص، أو من يشارك في تكرار معلومات عامة أو قصص إنسانية يختلط فيها التشويقي بغير الحقيقي، لكن الجريمة التي يشارك فيها الآلاف هي التخريب المتعمد والمنظم والمدفوع للقيم والعلاقات والمستقر من معاني الدين والانتماء الوطني، والانخراط في بث الفتنة بين مكونات البلد الواحد أو الإقليم أو المعتقد.والأخطر أن اللاوعي يسقط كثيرين في فخ هذه الحسابات، فتأخذهم الحميّة للدفاع عن اختياراتهم وانحيازاتهم فتكبر ساحة المعركة ويشمّر كل صاحب حساب عن ساعديه للانخراط في قتال تنعدم فيه غالباً كل الأخلاق، حتى التي يُزعَم الدفاع عنها، وتحتشد البذاءات والإساءات التي لا تستثني أحداً ولا شيئاً.في مثل هذه الأجواء، يضعف الصوت العاقل وتغيب الحكمة والاحتكام إلى الحقائق في غبار الاشتباك بين مجانين بعضهم يتوارى خلف اسم وصورة مزيفين، وبعضهم الآخر يقدم نفسه محاطاً بدرجة علمية مرموقة أو سيرة ذاتية تفيض بالفخر ومأثورالقول، لكن حين يحين النزال يتجرد من كل عقل وينتصر فقط لما يصادف هواه أو غرضه. الأمر يتصاعد من الانقسام حول عمل فني أو أدبي أو أندية رياضية في البلد الواحد، أو عربياً وعالمياً، إلى كبرى القضايا المشتعلة في المنطقة. وذلك كله يمكن تصوره إن جاء بالشكل المتعارف عليه في العالم، فالاختلاف سُنّة، والانحياز من أسس حرية الإنسان، شريطة ألا يصادر اختيارات الآخر أو يسيء إليها، كما نرى في غابة التواصل الاجتماعي المحكومة بقوة الشتم، لا الحُجة.لا يقتصر الأمر على ما يعرف باللجان أو الكتائب الإلكترونية التي أسست لها جماعات معروفة، فآثامها انتقلت إلى ما سواها ومنهجها الإقصائي المغرض ترسخ، للأسف، في أذهان ملايين، مجهولين ومعروفين، يستلذون من خلف الشاشات بأكل لحوم غيرهم.
في ذمّ «التواصل»
مواضيع ذات صلة