حسام ميرو
حسام ميرو
فشل مجلس الأمن الدولي في وقف الحرب الإسرائيلية على المدنيين في غزة، بعد إصرار أمريكي على منع صدور قرار ملزم، يضع حدّاً لهذه الحرب الكارثية والعبثية، والتي تبدو بلا نهاية قريبة، كما فشلت المفاوضات التي قادتها واشنطن للوصول إلى هدنة وتبادل للأسرى، بعد أشهر من الأخذ والردّ، وإطلاق تصريحات حول قرب التوصل إلى صفقة، سرعان ما كانت الآمال بتحققها تتبخّر في الواقع الميداني، لمصلحة استمرار الحرب، وتحويلها إلى عمل روتيني يومي، والواضح الآن، بعد اغتيال إسرائيل، إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، في طهران، أن هدف الوصول إلى هدنة في غزة، أمسى من الماضي.
لم يكن متوقعاً أن يتوصل مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرار يلزم إسرائيل بوقف الحرب، فمنذ عقد من الزمن، أصبح مجلس الأمن في حالة شبه عاطلة، تجاه مجمل القضايا الشائكة والساخنة سياسياً، خصوصاً أن المجلس منقسم بشكل حاد، بين الولايات المتحدة وحليفتيها بريطانيا وفرنسا، وبين روسيا والصين، وهو انقسام ممتد وواضح المعالم في مختلف مؤسسات الأمم المتحدة، وهذه الوضعية المركبة لواقع المؤسسة الأممية، هي نتيجة لمأزق يواجه مجمل العلاقات الدولية بين الدول الكبرى، ويعكس مدى التباين الحاصل فيما بينها حول القضايا الاستراتيجية المتعلقة بإدارة الأزمات.
إن المقدّمات السياسية والعسكرية التي أفضت إلى إنشاء المؤسسة الأممية بعد الحرب العالمية الثانية، انتهت مفاعيلها ودينامياتها مع سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، ما فتح الباب عملياً إلى عودة الصراع العالمي حول الحصص والنفوذ الدوليين، ورغبة الولايات المتحدة تكريس نفسها قطباً أوحد، من دون أن تتمكن عملياً في تأكيد هذه المكانة، خصوصاً بعد فشلين كبيرين في أفغانستان والعراق، استعرضت فيهما فائض القوة لديها، لكن من دون أن تتمكن من حصد نتائج سياسية استراتيجية، بل على العكس من ذلك، فقد سمح هذا الفشل، باستعادة عدد من الدول لسياساتها التوسعية، كاستراتيجية مزدوجة، دفاعية وهجومية في الوقت نفسه، لحصد مكاسب ممكنة، وتأكيد مكانة جيوسياسية، وإفشال المساعي الأمريكية، وأيضاً ملء الفراغ في أماكن حدوثه، كما في مسرح المشرق العربي، حيث تحتشد اليوم عدد من القوى والدول، عسكرياً وسياسياً في رقعة واحدة، بأشكال مباشرة أو عبر الوكلاء المحليين.
خلال الحرب الباردة، لعبت التوافقات والتفاهمات الدولية، وفي مقدّمتها تقاسم النفوذ بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، دوراً أساسياً وحاسماً في منع نشوب حروب كبرى، وعملت على ضبط أي خرق من قبل الأطراف الإقليمية، وعدم تحوّله إلى حرب واسعة النطاق جغرافياً وزمنياً، كما أسهمت في إحراز مستويات معقولة وفعالة - بشكل كبير نسبياً - من الاستقرار لمنظومات الأمن الإقليمي في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي انعكس في مؤشرات التنمية لكثير من الدول، التي استفادت من تلك الوضعية الدولية، لتحقيق تنمية وطنية في مستويات عديدة، بالإضافة إلى الحدّ من موجات الهجرة واللجوء، التي نراها أصبحت في السنوات الأخيرة، واحدة من أخطر الظواهر الديموغرافية، خصوصاً في الشرق الأوسط وإفريقيا.
لقد سمحت الحربان العالميتان الأولى والثانية بتصريف فائض القوة لدى القوى الصناعية الكبرى، وعلى الرغم من المآسي الكبيرة التي عانتها الشعوب الأوروبية بوجه خاص، وإزهاق أرواح عشرات الملايين من البشر، فإنها أفضت إلى تشكيل عالم القرن العشرين في نصفه الثاني، وأوجدت الأمم المتحدة كمرجعية لحفظ الأمن والسلام الدوليين، وكآلية تفاوضية لمنع نشوب حروب عالمية جديدة، خصوصاً مع امتلاك القوى الكبرى السلاح النووي، الذي يشكّل قوة ردع متبادلة وفعالة فيما بينها.
إن مستوى التنافس والانقسام الدولي اليوم، وصل إلى مستوى حاد جداً، في الوقت الذي تتجنّب فيه كل القوى النووية الكبرى الذهاب نحو حرب مباشرة فيما بينها، نظراً للكلفة التدميرية الساحقة لمثل حرب كهذه، لكن هذا الخطّ الأحمر الدولي، يشكّل في الوقت ذاته أزمة في وجه تصريف فائض القوة لدى الدول العظمى، وهو ما يظهر جلياً في حالة التعويض القائمة، عبر مواجهات إقليمية على جبهات محدّدة، كما في الحرب الروسية الأوكرانية، أو كما هو حاصل اليوم في منطقتنا، كما أن حالة العجز عن خوض حرب كبرى، تشكل فرصة لقوى إقليمية وازنة، بالمناورة وتوسيع رقعة النفوذ، مستفيدة من عدم وجود الرغبة والإرادة لدى اللاعبين الكبار بالانخراط في مواجهات قابلة للتوسّع، والتحوّل إلى مواجهة مباشرة.
الأثمان المترتّبة على هذه الوضعية من وجود فائض قوة يحتاج إلى تصريف، وعجز عن الوصول إلى تفاهمات واتفاقات على إدارة الأزمات العالمية، هي أثمان باهظة بكل المقاييس، ليس فقط بالمعنى الإنساني المباشر، بل بالمعنى التاريخي أيضاً، إذ إن حروب الوكالة والاستنزاف، من شأنها أن تزيد من تقويض الدولة الوطنية في مناطق النزاع الإقليمية، وهو ما نراه ماثلاً أمامنا اليوم في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والسودان، لمصلحة تمدّد الدول الإقليمية الأكبر حجماً والأكثر قوة، الأمر الذي يصاحبه تدمير واسع للبنى الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، وتصعيد خطر لإيديولوجيات وهويّات ما قبل وطنية، أو عابرة لها.