: آخر تحديث

خبرة أنطوان وحزن توفيق

22
15
14

يصف الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف المجتمعات الفاشلة، بأنها تلك التي فيها ألف أحمق مقابل عاقل واحد، وفيها ألف كلمة فاسدة مقابل كلمة واعية، وان الأغلبية دائماً هي الغبية، والذكي هو الذي ينتصر دائماً. فإذا رأيت مواضيع تافهة تقود النقاشات في مجتمع ما، ومواضيع تافهة تتصدر المشهد، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل. فالأغاني والكلمات التي لا معنى لها تجد الملايين يرقصون عليها، ويصبح صاحبها مشهوراً وغنياً ومحبوباً. أما العلماء والأدباء فلا أحد يعرفهم، ولا يعطيهم أحد أية قيمة أو وزن. فمعظم الناس يحبون الهراء، ومن يخدرهم، ومن يضحكهم بالتوافه، وهم أفضل ممن يوقظ المجتمعات ويحثها على العلم والبحث والواقع، لأنه يؤذيها بقول الحقيقة. ولهذا السبب فإن الديموقراطية ليست في مصلحة المجتمعات الجاهلة، لأن الأغلبية الجاهلة هي التي ستقرر مصيرك.

* * *

كلام الأخ أنطوان كرره الكثيرون، ولا أعتقد أنه يقتصر على قلة من المجتمعات، فالعالم أجمع، بنظري، تنطبق عليه مقولاته، فغباء الأغلبية أمر معروف منذ بداية التاريخ البشري، وسبق أن تحدث عنه فلاسفة الإغريق، ومع هذا لم يؤثر ذلك على عطاء الكثيرين، استمرت البشرية ولم تفنَ بسبب غباء الأغلبية.

أما الاعتراض على كلمات وأغانٍ وأشعار تافهة، فهذا أيضاً كان السائد، تاريخياً. فكيف يصف الأخ أنطوان المجتمعات بأنها في أغلبيتها غبية، ويأتي بعدها وينتقد ما تنتجه عقولها؟ ما لم يدركه أن تفاهة الأغلبية كان هو الطبيعي والسائد، ولم يمنع ذلك عشرات آلاف المبدعين من إسعادنا بجميل أغانيهم ورائع رواياتهم وبديع أشعارهم، وخالد مسرحياتهم. كما أن شكوى مبدعين، من أمثال توفيق الحكيم، وعشرات الكتّاب والروائيين، وحتى المطفوقة «مريم نور»، والكاتبة الجزائرية «أحلام مستغانمي»، من أنهم لا يلقون، في مجتمعاتهم، التقدير والتكريم اللذين يليقان بهم، مقارنة بما يلقاه لاعب كرة قدم أو مطربة، غير مدركين أن هذا طبيعي وديدن البشر، فهم يحبون من يسعدهم ويمتعهم، وليس من يثقفهم، أو يعطيهم دروساً في التراث والفلسفة وأسرار الكون. فكثير من زعماء المنطقة، في عز تقدم الكويت الثقافي، كانوا مثلاً يسعدون باستضافة عبدالحسين عبدالرضا وخالد النفيسي وغيرهما من فنانين، في قصورهم وبيوتهم، ويجزلون لهم الثناء والعطاء، ولم يفكروا يوماً في دعوة أعظم عالم فيزياء كويتي، مثلاً، وهذا أمر نراه حتى في حفلات البيت الأبيض والكرملين، ومنازل مليارديرية العالم. فالإنسان يتوق للترفيه غالباً، وليس للجاد من الأمور، وكلمات أنطوان وغيره دليل على عدم معرفة كافية بما تتوق له النفس البشرية. ولو جمعت في غرفة أفضل كتّاب الرواية العالميين، وأفضل المخترعين، وأحسن مقدمي البرامج، وأكبر الفلاسفة والمفكرين، وخيرة علماء الفضاء، فلم يكن بمقدور أغلبيتهم تحمّل بعضهم بعضاً أكثر من ساعة أو ساعتين، ولو دعوتهم لمشاهدة مباراة كرة قدم عالمية أو مباراة بيسبول، أو الاستماع لحفل المطربة تايلور سويفت، لأداروا ظهورهم بعضهم لبعض، ليستمتعوا بالمباراة ، والاستماع لما يشجي النفس، التي إن كلّت عجزت وشاخت!

* * *

أما ما ذكره الأخ أنطوان، وكرره كثيرون قبله وبعده، بأن الديموقراطية لا تنفع المجتمعات الجاهلة، فهذا أيضاً لا يصمد أمام الواقع. فإن كان مجتمعاً ما جاهلاً، فكم عليه الانتظار ليتحول إلى مجتمع متعلم، هل هناك فترة زمنية متفق عليها؟ لا بالطبع، فجميع المجتمعات، الغربية مثلاً، كانت في الأصل جاهلة، ولم يقل أحد إن عليها الانتظار. فالبشر يتعلمون بالممارسة والتجربة والخطأ. والإصرار على «النضج والفهم والمعرفة» قبل اعتماد الديموقراطية، يشبه رفض توظيف خريج جامعة جديد، بحجة عدم الخبرة، فكيف يمكن لهذا الشخص اكتساب الخبرة، إن لم يقم أحد ما بتوظيفه، وهكذا مع الديموقراطية.

ولو ذهبنا للغرب الأمريكي، مثلاً، لاستغربنا سذاجة أفكار أغلبية سكان تلك الولايات، ومع هذا لا نستطيع إنكار حقهم في اختيار أخطر وأقوى رئيس دولة في العالم. فهؤلاء الذين انتخبوا بايدن وترامب، هم الذين سبق أن انتخبوا كنيدي وروزفلت ولنكولن والعشرات غيرهم من عظماء القادة.

وبالتالي الديموقراطية لا تأتي في علبة، وليس لها تاريخ إنتاج وتاريخ انتهاء، بل هي تجربة تعيشها الشعوب بقادة مستنيرين، ولم تعرف البشرية يوماً إبداعاً حقيقياً مستمراً من أمم عاشت تحت أنظمة دكتاتورية قاسية.
 

أحمد الصراف

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد