: آخر تحديث

«بروفة الخطر»

2
2
3

بدأت الحرب وانتهت. تركت جروحاً غائرة. تكشفت أوراقها السرية. ما في الأعماق ظهر على السطح. الخرائط أعادت رسم القلق من جديد.

12 يوماً تشبه الفيلم الأميركي «12 رجلاً غاضباً» من بطولة النجم الكبير هنري فوندا. دائرة الغضب تتسع. التقديرات الاستراتيجية حائرة ما بين نظرية بريجنسكي عن تكوين أوراسيا الأميركية، وبين نظرية هنري كيسنجر الساعية إلى دبلوماسية السيطرة «خطوة خطوة». أما دول الشرق الأوسط فهي حائرة بين المصالح الوطنية وبين النفوذ الخارجي، والاندفاع إليها بحروب قد لا تكون مستعدة لها، ولا راغبة فيها.

في اليوم التالي لإيقاف الحرب الإسرائيلية على إيران، ثمة دروس مستفادة، لا بد أن نتوقف أمامها بالفحص والدرس، قبل أن يحترق العالم إذا ما اتخذت الفلسفة ذاتها في الصدام والحروب.

أول هذه الدروس، يتمثل في الإدراك أن إسرائيل تنتهج سبيل الحرب للحرب، ونحن نفهم أن الحرب هي مجرد أداة من أدوات السياسة، لكن قيادة إسرائيل اليمينية بزعامة بنيامين نتنياهو، تعتقد أن هناك فرصة سانحة للاستيلاء على الشرق الأوسط برمته، وقد زعم أكثر من مرة أنه سيغير وجه الشرق الأوسط للأبد، وبالقوة العسكرية وحدها، من دون أن يدرك أن هناك قوى ممانعة لهذا الطموح غير المشروع.

اكتشفنا أثناء حرب الأيام الاثني عشر، أنه غير قادر بقوته الشاملة على النصر في معركة واحدة، فعلى عادته يبدأ نتنياهو دائماً الحرب، ولا يعرف كيف ينهيها، ولولا التدخل الأميركي المعلن ما استطاع الصمود طوال هذه الأيام، فبعد ضربته الاستباقية الأولى احتفل بالنصر السريع، ولكنه اكتشف أن الحرب أسرع وأكثر ألماً مما كان يتخيل، فقد نام معظم الشعب الإسرائيلي في الملاجئ، وعلى إيقاع صفارات الإنذار، وكان يحث واشنطن على التدخل السريع.

في اليوم العاشر للحرب قصفت واشنطن مفاعلات إيران النووية. قواعد الحرب الجديدة تتجاوز القواعد التقليدية والنمطية. نتنياهو اعتدى على دولة مستقلة. أميركا قصفت منشآت خاضعة لمؤسسات دولية، وتشرف عليها هيئة الطاقة النووية العالمية.

في هذه الحرب اكتشفنا أن نتنياهو تجاوز خطوطاً حمراء، حيث قصف منشآت مدنية، مستعيناً بأدوات غامضة في عالم التجسس.

هذه الحرب جاءت خارج منهج بريجنسكي وكيسنجر، لم يستطع نتنياهو أن يحقق أي هدف من أهداف الحرب، فلا النظام الإيراني سقط كما كان يدعو، ولا الشعب الإيراني انقسم على قيادته كما كان يتمنى، وفوجئ أن صورة إسرائيل نفسها تزعزعت بسبب الإبادة في غزة.

ثمة مفارقة هائلة هنا، فالرقيب العسكري الإسرائيلي يمنع أي صور تظهر الخسائر الناجمة عن الصواريخ الإيرانية، وفي اليوم الأخير سمح بنشر صور الدمار، بهدف جلب التعاطف الدولي مع تل أبيب، ثم تخويف المجتمع الإسرائيلي ليقبل بإيقاف الحرب.

أما الأخطر بالنسبة لنتنياهو، فإن إيران قد تتخلى عن عضويتها في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد قال دميتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، إن إيران ستصبح نووية، وستحصل على قنبلة نووية من دولة أو أخرى، مما استدعى رداً من الرئيس الأميركي الذي قال: إذا كان الرئيس الروسي السابق قال ذلك فأبلغوني فوراً. الرسالة هنا أن الحرب وحدها باستخدام القوة الغاشمة لا يمكن أن تحقق أي أهداف، بل تكشف زيف مبدأ سلام القوة الذي يعتنقه نتنياهو.

الدرس الثاني مقبل من طهران، حتماً ستقرأه بلاد فارس، فقد اهتمت بأذرعها في لبنان وسوريا واليمن والعراق، وتداخلت في فلسطين من أجل وجودها، وتوسيع نفوذها داخل الإقليم العربي، ولكنها اكتشفت أن هذه القضية معقدة، ولا تصلح للاستخدام السياسي الخاص، فهي مثل الرمال المتحركة تبتلع من يسير عليها.

تذرعت إسرائيل بهذا التدخل، ومنعت الفلسطينيين من نيل الاستقلال، وإقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.

إيران أخطأت في التقديرات. هذا التداخل كلفها خسارة «حزب الله» في لبنان، وحليفها النظام السوري السابق، على حساب الداخل الإيراني.

هذا المشهد يعطينا درساً مهماً، مفاده أن تجربة الحرب هذه تؤكد ضرورة وأهمية حماية الجبهات الداخلية، بقدر حماية الحدود والجبهات الخارجية، وهذا يتطلب منا - نحن العرب - الوحدة في مجالات الدفاع، والأمن والاقتصاد والسياسة، والتحرك معاً لتأكيد ضرورة حل القضية الفلسطينية «أم القضايا المزمنة»، فقد كان الانخراط فيها من خارج الإقليم العربي ذريعة لإسرائيل وحلفائها لعرقلة الحل.

الدروس قاسية في هذه الحرب، لكنها مفيدة لمن لديه حكمة وتقدير سياسي صحيحان، فما شهدناه خلال اثني عشر يوماً كان «بروفة الخطر».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد