هي في تقليدها الروحي ليست مركزاً للحكم، فمنذ نشأتها، رفضت أن تكون كذلك، لكنها في لحظات الضرورة تُظهر حاكميتها وحكمتها، فتحكم بالعام من موقعها الرعوي المقيم فوق كل أشكال أو أنواع السلطات، الواسعة خارج حدود الدولة الوطنية أو المحدودة داخل بلد أو جماعة شيعية، كبيرة كانت أم صغيرة. فهي وحدها القادرة على كبح جماح المستعلين المفتونين بفائض قوتهم، وتضمد جراح العائدين من انكساراتهم أو هزائمهم.
تبرز قدرة المرجعية النجفية على كظم الغيظ، والعفو المشروط بشروطها يُربك القلة التي تُعاديها، ويُحرج بعض الخصوم أو الطامحين لمنافستها من أبناء رعيتها. لذلك، أثناء العدوان الإسرائيلي على إيران، ومع بروز مخاطر إقدام تل أبيب على اغتيال المرشد الإيراني، وتداعيات ذلك، كان بيان المرجع الأعلى للمسلمين الشيعة في العالم، آية الله السيد علي السيستاني، أحد العوامل الأساسية في كبح الرعونة الإسرائيلية. فقد عدّ السيستاني أن «مثل هذا العمل ستكون له تبعات بالغة الخطورة على المنطقة بأسرها، وقد يؤدي إلى خروج الأوضاع عن السيطرة تماماً واندلاع فوضى واسعة».
في التفسير الظاهر للنص، تُشير المرجعية العليا إلى أمرين: الأول، رد فعل أبناء الطائفة الشيعية على اغتيال مرجع ديني، حتى لو لم يكونوا من أتباع ولاية الفقيه؛ إذ إن المرجعية لن تسمح أو تتسامح مع هذه السابقة. أما الآخر، فهو الفوضى داخل إيران المحتقنة أصلاً، والقابلة للاشتعال في أي لحظة، لكن إن حدث الاغتيال في تلك اللحظة التي كانت أجواء إيران تحت سيطرة الطيران الحربي الإسرائيلي، فإن الفوضى السياسية والأمنية كانت ستُهدد بمخاطر قاتلة، ليس لإيران فقط، بل لكل جوارها العربي والإسلامي. وقد بدا هذا واضحاً في رأي النخب السياسية وصنّاع القرار في المنطقة، الذي عبّر عنه بوضوح رئيس التحرير السابق لـ«الشرق الأوسط»، الأستاذ عبد الرحمن الراشد، في مقاله اللافت في الصحيفة نفسها، بعنوان: «استهدافُ المرشد تفكيرٌ مجنون».
أما باطن كلام السيستاني، وقد يكون الأكثر حساسية أو أهمية، الذي يعني كل أتباع المذهب الإسلامي الجعفري، فيمكن تفسيره بوضوح بأن عباءة المرجعية النجفية تُظلّل الجميع وتحميهم، وهي أوسع روحياً، وأقدر تأثيراً من كل مساحة الجغرافيا التوسعية الإيرانية وإمكاناتها العقائدية والسياسية والعسكرية. فالأحداث الأخيرة تضع حدّاً لكل مَن يعتقد بإمكانية مزاحمتها أو منافستها على دورها أو موقعها، أو مَن يُخطط للسيطرة عليها أو التسلسل إلى سراديبها.
النجف، في ديناميكيتها الحوزوية وتعدديتها المرجعية، لم تتوقف عن إنتاج حيويتها الفقهية، في حين تسببت سلطات طهران العقائدية في محاصرة الحيوات الفقهية في قم، خصوصاً التنويرية منها، لصالح مؤسسة ولاية الفقيه التي تمر بتحدٍّ أساسي، بسبب عدم قدرتها على تهيئة البدائل، كأن الولي الفقيه الحالي هو الأخير.
موسم الهجرة إلى النجف ليس إيرانياً فقط، بل هو عراقي ولبناني، فالطبقة السياسية الشيعية في العراق اليوم أمام تحدٍّ صعب، فما تبقّى من نظام 2003 بات من المستحيل أن يستمر. وثنائية المال والسلاح أصبحت عبئاً على شبه الدولة والمجتمع، ولا يُمكنها أن تحتفظ بسلطتها وهي في مواجهة الانتخابات أو التظاهرات، في مشهد جديد من الصراع على السلطة بين مَن يدّعي الأحقية ويتهم الآخرين بالتبعية، ويرفض التغيير تحت ذريعة المؤامرة، ومستعدٌّ من جديد لقتل المطالبين بالإصلاح، كما فعل في 2019.
أما في لبنان، خصوصاً مع تراجع دور المؤسسة الدينية الشيعية الرسمية وسيطرة «الثنائي الشيعي» عليها، إضافة إلى طموحات بعض شخصياتها، فإن المعضلة الشيعية في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والاندماج كبيرة، وتكاد تتحول إلى «مسألة شيعية»، بسبب الأداء السياسي «للثنائي» بعد مقتلة «حرب الإسناد»، الذي يُحاول تغطية نفسه بذرائع عقائدية للحفاظ على نفوذه القائم على تحجيم مستوى الاندماج.
الهجرة إلى النجف هي العودة إلى الأوطان، أي اندماج المسلمين الشيعة أينما كانوا في أوطانهم. وهي عودة إيران إلى حدودها الوطنية والتخلّي عن النفوذ المُكلِّف الذي بات عبئاً على الشيعة. هي إعادة تعريف البيت السياسي الشيعي العراقي لهويته الوطنية، وفكرة الدولة لا السلطة. وهي انتباه الشيعة في لبنان إلى محيطهم القريب التعددي والبعيد الأغلبي، والاقتناع بأن الغلبة كانت مؤقتة، وأن تكلفتها مرتفعة.
النجف، في حلّها وترحالها، في مدارسها وسراديبها، بسلطان رأيها وصمتها، تتقن حياكة ما هو أصعب من السجاد. تمسك بدورٍ أوسع من الجغرافيا، ولكن لا يتجاوز الأوطان.