: آخر تحديث

فرنسا ومخاطر الانتخابات

20
18
17

باستثناء مفاجأة لا تزال ممكنة، قد يكون لفرنسا يوم الأحد أول حكومة يمينية متشددة منتخبة بقيادة حزب التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقاً) بقيادة مارين لوبان. المرة الوحيدة الأخرى التي ظهرت فيها هذه السياسة كحكومة في فرنسا كانت في الأربعينات في عهد المارشال فيليب بيتان، ورئيس الوزراء إدوار دلادييه، إبان الاحتلال الألماني.

وعلى مستوى أوسع، ستكون هذه هي المرة الثانية - منذ الانتخابات العامة في جمهورية «فايمار» في ألمانيا عام 1932- التي يفوز فيها حزب يميني متطرف بأغلبية برلمانية مباشرة في إحدى الديمقراطيات الأوروبية الكبرى.

لكن هل ينبغي لنا أن نسارع إلى الانضمام لهؤلاء الذين ينتمون إلى أقصى اليسار، والذين يطلقون استغاثات ملتاعة إزاء سيطرة «الفاشية» على فرنسا؟ لا أعتقد ذلك.

من المؤكد أن التجمع الوطني يتقاسم عدداً من السمات مع الفاشية، على سبيل المثال: الفهم الضيق للأمة القومية، والنبرة المعادية للأجانب، وعبادة الزعيم. ومع ذلك، فإن «التجمع الوطني» هو وريث لتقليد سياسي له جذور عميقة في التاريخ الفرنسي الحديث.

تشكل هذا النوع الخاص من السياسة اليمينية عبر المنافسة مع نوعين آخرين: «البونابرتية: نسبة إلى نابليون بونابرت» مع أحلامها في بناء الإمبراطورية وعبادة المُنقذ، و«الأورليانية: نسبة إلى أسرة أورليان الفرنسية» التي تستند على الطبقة الوسطى الحضرية ووعود الرخاء والازدهار.

وقد وجدت أول تعبير لها في انتفاضة «الشوانوري» ضد الثورة الكبرى عام 1879، التي منحت الحركة الوليدة طابعاً مناوئاً لليسار منذ البداية.

في حين أن انتفاضة «الشوانوري» اتخذت صورة النسخة البدائية من حرب العصابات أو «الجاكيري» بالفرنسية، فإن حركة اليمين المتطرف الناشئة قد اكتسبت تدريجياً قاعدة حضرية من خلال ما يُعرف باسم البرجوازية الصغيرة للغاية، التي خشيت العنف من البروليتاريا الآخذة في الاتساع، مع تكثيف التصنيع، وتزايد القلق من فقدان الهوية الوطنية، وعلى رأسها المسيحية في المقام الأول.

إثر الانقسام بين اليمين الراديكالي واليسار الراديكالي، لم تنجح السياسة الفرنسية في بناء مؤسسات وممارسات ديمقراطية دائمة. تشكلت الأحزاب السياسية حول شخصيات كاريزمية، ولكن على عكس بريطانيا العظمى أو الولايات المتحدة، نادراً ما نجت من اختفاء تلك الشخصيات.

كان اليمين المتطرف في فرنسا يعتمد دائماً على 3 حالات من الضغائن:

الأولى، كانت فقدان الملكية نتيجة للثورة التي قدمها المفكرون اليمينيون المتطرفون باعتبارها مؤامرة من قبل القوى الأجنبية ضد فرنسا، التي كانت القوة العظمى الوحيدة في العالم في ذلك الوقت.

والثانية، فقدان الإمبراطورية والدماء الفرنسية نتيجة لما أسماه روبرت برازياك - أحد كبار اليمين المتطرف في فرنسا - «الطموحات المجنونة» التي أطلقها نابليون بونابرت. وفي كتابه «طفل الليل»، يتحسر برازياك على إعادة رسم الخريطة الأوروبية بالدماء الفرنسية وامتزاجها بدماء أجنبية.

في ما بعد، شكّلت أفكار برازياك العمود الفقري الآيديولوجي للجماعة الإرهابية الأولية المعروفة باسم «أكسيون فرانسيز» أو «الحركة الفرنسية».

والحالة الثالثة هي ما عدّه بعض الكتاب تجريد فرنسا من «الفَرْنَسة» في أعقاب هزيمة عام 1970 على يد ألمانيا بقيادة بروسيا. وفي هذه الحالة، وُجهت أصابع الاتهام بصفة خاصة إلى اليهود، ما أدى إلى «قضية دريفوس» التي اتُهم فيها ضابط في الجيش الفرنسي ظُلماً بالتجسس لصالح الألمان.

في أحد المعسكرين هناك أولئك الذين يرغبون في الحفاظ على «الفرانسيتيه» أو النزعة الفرنسية الخالصة. في حين يحاول المعسكر الآخر، أنصار «القيم العالمية» للثورة العظمى، إذابة الهوية الفرنسية في أخوة إنسانية غير متبلورة تحت مسمى الحرية والمساواة.

الواقع أن الجبهة الوطنية - التي تطرق الآن باب السلطة في باريس تحت اسم التجمع الوطني - مُستلهمة من عدد من الشخصيات، بما في ذلك السياسي «جاك سوستيل»، والمحامي «تيكسييه ڤيغنانكور»، اللذين أعربا عن آلام «الإذلال الوطني».

ترجم «جان ماري لوبان» وعشرات من رفاقه هذا الاستياء إلى عمل سياسي من خلال تشكيل الجبهة الوطنية. أدرك لوبان أنه إذا اقتصر الأمر على الحنين والاستياء ومخاوف الطبقات المتوسطة الدنيا، فلن تُتاح لحزبه فرصة تُذكر للفوز بالسلطة عبر صناديق الاقتراع.

قد فشلت نسخة سابقة من «الليبينية» نسبة إلى جان ماري لوبان، والمعروفة باسم «البوجادية» نسبة إلى السياسي الفرنسي بيير بوجاد، في الخمسينات، لأنها لم تحقق أي تقدم في تلك الدوائر الانتخابية الرئيسية.

إن كل الحركات اليمينية المتطرفة تستخدم عبارة «نحن وهم» كنموذج لخطابها. لقد حوّلت الحركة «الليبينية» المعركة ضد الهجرة إلى نقطة انطلاق في سعيها إلى السلطة.

بعد أن طرحتُ كل ما سلف، تبقى الحقيقة أن كل ما لدينا من «التجمع الوطني» هو رسم انطباعي يصور «التجمع الوطني» على أنه معادٍ للأجانب، ومعادٍ للإسلام، ومعادٍ للسامية، ومشكك في أوروبا.

لكن هذا مجرد انطباع. يبدو برنامج «التجمع الوطني» للحكومة مثل قائمة جرد لمتجر للحلوى، مملوء بالسلع التي لا يتضح أين ومتى يمكن تقديمها.

الأمر المؤكد هو أن حزب التجمع الوطني صار الآن أكبر حزب سياسي في فرنسا، وتدعمه نسبة لا تقل عن 40 في المائة من الناخبين. حتى لو لم يفز بأغلبية في البرلمان الجديد، فإنه سوف يكون اللاعب الرئيسي في السياسة الفرنسية في المستقبل المنظور.

يرى بعض الخبراء أن ذلك الأمر يمثل تهديداً للديمقراطية الفرنسية. ربما، لكن شيطنته تشكل تهديداً أعظم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.