في أيّ صراعٍ اجتماعيّ مقدارٌ ما من السّياسة يزيد أو يقلّ تبعاً لنوعيّةِ أبعاده وللقوى المشارِكة فيه ولمكانة السّلطة وأجهزتها منه. وفي أيّ صراعٍ سياسيّ مقدارٌ ما من الحضور المجتمعيّ في نسيجه، لأنّ أطرافه ينتمون، حُكْماً، إلى فئات وطبقات اجتماعيّة متعدّدة المصالح متناقضة الأهداف والخيارات. لا مجال، إذن، إلى إقامة عازلٍ قاطع بين الاجتماعيِّ والسّياسيِّ في النّزاعات والصّراعات: ما كان منها سلميّاً، وما جَنَح منها للعنف؛ وإذا ما احْتيج إلى التّمييز بينهما من حيث هما صعيدان متمايزان، داخل البنية الاجتماعيّة، فالتّمييز هذا يكون منهجيّاً: من باب ما تدعو إليه ضرورات التّحليل والحاجةُ إلى فهم نظام اشتغال عوامل الاجتماع كلِّها؛ أمّا في الواقع فهي جميعُها متمفْصلةٌ مترابطة تشتغل من حيث هي بنية واحدة وينتظم عملَها نظامٌ واحد.
تَداخل الاجتماعيِّ والسّياسيِّ في الفعل المجتمعيّ حقيقةٌ موضوعيّة من حقائق أيّ اجتماع سياسيّ في أيّ حقبةٍ من التّطوّر التّاريخيّ، خاصّةً في الأزمنة الحديثة التي اتّسعت فيها مساحاتُ السّياسيِّ وباتت فيها عواملُ السّياسة هي المحدِّدَ الرّئيسَ لوجوه النّشاط المجتمعي جميعِها. غير أنّ أعلى درجات التّخَلُّل المتبادَل، أو التّداخل، بين الاجتماعيِّ والسّياسيِّ هي تلك التي تُفصح عن نفسها في ظاهرة الصّراعات التي تنشب بين قوًى عدّة في المجتمع أو في السّلطة أو فيهما معاً.
وليس في هذا ما يُستغرب له؛ إذِ الصّراعاتُ الاجتماعيّة تدور، في الغالب، على مسائلَ ومشكلاتٍ متفرّعة من مسألتيْن رئيستيْن إليهما ترتدّ كلّ الصّراعات: السّلطة والثّروة؛ وهاتان مسألتان سياسيّتان بامتياز بالمقدار عينِه الذي نقول عنهما إنّهما من أمّهات مسائل الصّراع الاجتماعيّ. هكذا، وحيث ما أَدَرْنا مسألة العلاقة على هذا الوجه أو ذاك، تتبدّى لنا الصّراعات بوصفها اللّحظة العليا من التّداخُل بين عوامل الاجتماع وعوامل السّياسة في أيّ مجتمع سياسيّ ونقطةَ الانعقاد الرّئيس لها.
على أنّ أكثر الصّراعات تداوُلاً وانتشاراً في التّاريخ هي التي مبْناها على العنف والتي حَطبُها منه. قبل أن يصبح في وسع الصّراعات الاجتماعيّة والسّياسيّة أن تعبّر عن نفسها، داخل المجتمع الوطنيّ، بشكلٍ سلميّ على نحو ما بات شأنه ممكناً في العصر الحديث؛ أي قبل أن يستتبّ أمرُ النّظام الدّيمقراطيّ داخل الدّولة الحديثة وتصير المؤسّساتُ العامّة هي ميدانَ الصّراعات تلك، لا الشّوارع والجبال والأدغال، حُمِلَتِ الصّراعاتُ على مَحامل العنف فاستُخدِمت فيها أدواتُه الماديّة المتاحة لإلحاق الهزيمة بالخصم أو العدوّ الدّاخليّ، نظير تلك التي وقع استخدامُها في مواجهة العدوّ الخارجيّ.
كان الهدفُ دائماً هو إخضاع من يقع عليه العنف لإرادةِ خصمه، وإجباره على التنازل عمّا بين يديه من موارد الامتياز التي يتمتّع بها منفرداً: ثروةً كانت أو سلطة أو ما في معنى ذلك.
على هذا النّحو جرتِ الصّراعات على السّلطة وعلى الأملاك في المجتمعات الإنسانيّة على مدار التّاريخ؛ وعلى هذا النّحو حصلتِ الثّورات السّياسيّة في سياقٍ دموي عامّ من المذابح والتّصفيّات في أكثر بقاع العالم ما قبل الحديث. كان العنف الماديّ العاري عكّاز الصّراع وبُوصلته ولغتَه الوحيدة المفهومة لدى الجميع بمقدار ما كان على الصّراع أن يستمرّ محركاً للتّطوّر وباعثاً على ميلاد ظواهر وأنظمة اجتماعيّةٍ واقتصاديّة جديدة...
ليس معنى هذا أنّ العالم المعاصر فكَّ الارتباط بين السّياسة والعنف، وأَوْجَد سُبُلاً جديدة لتنظيم الصّراعات على قواعدَ سياسيّة خالية من العنف، تماماً، على ما تزْعُم السّرديّة الإيديولوجيّة اللّيبراليّة عن الدّيمقراطيّة. صحيح أنّ النّظام الدّيمقراطيّ وفّر أطراً وقواعد لتصويب الصّراعات والذّهاب بها نحو التّعبير السّلميّ والمؤسَّسيّ عن نفسِها ومنْعها بالتّالي، من الانزلاق إلى الانفجار أو الصّدام المسلّح، ومع ذلك ما استطاع أن يمنع من خروج النّازيّة والشّعبويّة والتّطرّف العنصريّ من جوفه!
إنّ الحقيقة التي لا يملك التّلميع الإيديولوجيّ البرجوازيّ أن يغيّر منها هي أن العنف استمرّ يُطِلّ على الاجتماع الإنسانيّ المعاصر، على الرّغم من استتباب أمْر الدّيمقراطيّة والقانون والرّدع السّياسيّ، بل لقد زادت كثافتُه معها أكثر من ذي قبل. يكفي أن نتذكّر كيف كانت مدن أوروبا وأمريكا، في العقود الأخيرة، مسرحاً مفتوحاً لأفعالٍ من العنف المتبادَل مَهُولة: من قبل أجهزة الأمن ومن قِبَل المتظاهرين والمعتصمين المحتجّين على السّياسات المطَبَّقة؛ تبطُش الأولى بمواطنيها بوحشيّةٍ بالغة، ويرُدّ المواطنون بطشاً بالبوليس وإحراقاً لمرْكباتهم وللمرافق العامّة والخاصّة.
منذ مئةٍ وثمانين عاماً استوقفت هذه الظّاهرة الفيلسوف الألمانيّ كارل ماركس وهو يدرس تاريخ تطوّر المجتمعات، وتطوُّر أنظمة الإنتاج فيها، فانتهى به البحث إلى اكتشاف القانون الحاكم الذي بمقتضاه يتحرّك التّاريخ: قانون صراع الطّبقات الاجتماعيّة. إنّه الصّراع الذي يدور على مصالح لا تُنْتزَع إلاّ بالقوّة، ولا تَقْبَل أن يُحافَظ عليها وتُحْمَى من المصادرة سوى بالقوّة. وهكذا كان العنف في هذا المَجْرى التّاريخيّ - الاجتماعيّ والسّياسيّ - وقوداً لذلك الصّراع وسلاحاً فيه.