يجتاح الغضب الجامعات الأمريكية، والأوروبية، ويمتد إلى كل أصقاع الأرض، إذ تنتفض النخب، العلمية والفكرية، العالمية ضد إسرائيل، فيما يبدو أنها ثورة «المجتمع العلمي العالمي» ضدّها.
نحن ندرك أنّ صورة إسرائيل هي في طريقها إلى الاندثار، بعد حدث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وإن عملت آلة الدعاية على إسكات أصوات كبار الباحثين في العالم، مثل المفكر الفرنسي روجي غارودي، والمفكر العربي عبد الوهاب المسيري، إلاّ أنّها غير قادرة على إسكات انتفاضة المجتمع العلمي اليهودي بخاصة، والعالمي عامة، الذي تقوده قامات مثل نعوم تشومسكي، وإدغار موران، وغيرهما، ممن ينتفضون على الرواية الإسرائيلية للأحداث الجارية.
منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ومع بدء الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، خرجت تظاهرات حاشدة لمجموعة من اليهود خارج مبنى الكونغرس الأمريكي، وداخله، للمطالبة بإنهاء القصف الإسرائيلي على غزة، وبدأ اسم منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام» يتردد في الأوساط العربية والأمريكية، سواء داخل الولايات المتحدة، أو خارجها. «نحن نرفض مشاهدة ارتكاب الحكومة الإسرائيلية إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة»، بهذه العبارة المنشورة على موقع «إكس»، (تويتر سابقاً)، حاولت منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام» توضيح موقفها من رد الفعل الإسرائيلي على الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة حماس، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. وأضافت المنظمة أن «جذر العنف هو القمع، ونحن هنا لنقول لا بأسمائنا، ولدينا القدرة على وقف الفظائع المستمرة ضد الفلسطينيين».
ومنذ أسابيع، ينتفض طلبة الجامعات الأمريكية رافضين استمرار الحرب، ومعترضين على مشاركة بلادهم في جرائم الحرب المرتكبة. لقد تعامل هؤلاء الطلبة مع تجربة «غزة» كفكرة مستقلة، للولوج عبرها إلى السردية الفلسطينية المهجورة، ومن ثم إعادة اكتشافها، بعيداً عن تأثيرات الدعاية الصهيونية التي ظلت تسيطر على العقل الغربي، حتى مجيء الفضاء الرقمي، وتقنياته الذي وفر المرجعيات البديلة. ولتحييد قانون «معاداة السامية» على اعتبار أن المستهدف هو «إسرائيل» التي تمارس الإرهاب والإبادة، وليست اليهودية كديانة، فقد ضمت هذه «الثورة» جميع الأطياف، بمن فيهم الطلبة اليهود الذين تبرّأوا من الصهيونية، ودولة الاحتلال الإسرائيلي التي يرونها كوصمة عار على اليهودية.
والأمر لا يختلف عند متابعة مواقف كبار المفكرين العالميين، ففي كتاب عنوانه «غزة في أزمة»، كتبه نعوم تشومسكي، وإيلان بابيه، وصدر في عام 2010، أشار وقتها تشومسكي إلى أنّ إسرائيل فقدت عقلها، ومارست حرباً جنونية على القطاع، فضمن فصل عنوانه («أبيدوا جميع البهائم»: غزة 2009)، يشير تشومسكي إلى كيفية معاقبة الفلسطينيين على تصويتهم «الخاطئ» لحماس (في انتخابات 2006)، وشروع «إسرائيل» في إبادة شاملة ب«الرصاص المصبوب»، وحرق المحاصيل الزراعية، ومنع دخول الغذاء والدواء والنفط، والاعتراض على أي قافلة مساعدة.
وكان الهدف معاقبة الشعب الفلسطيني على «فعلته النكراء» بانتخاب حركة حماس ديمقراطيّاً، وفي توصيف مشابه جداً، لصورة إسرائيل التي تشن اليوم حرباً شعواء ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، يقول «داعية السلام» يوري أفنيري، حول عدوان «الرصاص المصبوب» ديسمبر/ كانون الأول 2008)، «إن ما سينطبع في أذهان العالم» في أعقاب «الانتصار» العسكري الإسرائيلي «هو صورة إسرائيل بوصفها مسخاً ملطّخاً بالدماء على استعداد، في أي لحظة، لارتكاب جرائم حرب، وغير مستعدة للالتزام بأيّ ضوابط أخلاقية... فهذه الحرب هي في النهاية جريمة ضد ذواتنا أيضاً، جريمة ضد دولة إسرائيل».
من جانبه، هاجم عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، اليهودي الديانة، إدغار موران، صنّاع القرار في إسرائيل لارتكابهم مجزرة حقيقية واسعة النطاق في غزة. وقال في كلمة له خلال الدورة الثانية لمهرجان مراكش للكتاب الإفريقي: «بعد مجزرة السابع من أكتوبر ارتكب صناع القرار الإسرائيلي مذبحة حقيقية واسعة النطاق ضد سكان غزة، ولا يزالون يرتكبونها من دون توقف». وانتقد الفيلسوف الفرنسي صمت العالم قائلاً: «نشاهد صمت العالم وصمت الولايات المتحدة الأمريكية حامية إسرائيل، وصمت الدول الأوروبية التي تدّعي دفاعها عن الثقافة والإنسانية وحقوق الإنسان، إننا نعيش مأساة رهيبة، لأننا نشعر بالعجز أمام ما يحدث». من جانبه قال المفكر اليهودي ديمتري تشومسكي، في مقال نشره موقع صحيفة «هآرتس»: «على مدى 50 عاماً تسيطر إسرائيل على الأراضي المحتلة، وتقيد حرية الحركة للشعب الذي احتلته، وتقوم بتوطين مواطنيها في الأراضي الفلسطينية، وتفرض نظاماً عسكرياً على الفلسطينيين، ما يشكل انتهاكاً فظاً للقانون الدولي، من دون أن يفكر المجتمع الدولي في إجبارها على دفع ثمن ما». وأضاف: «لا خلاف على أن أوضاع الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي أكثر قسوة بعشرات المرات من الأوضاع التي يعيشها الأهالي في القرم بعد ضمّها لروسيا»، مشيراً إلى أن سكان القرم تحولوا إلى مواطنين روس، ويتمتعون بكل الحقوق التي يتمتع بها الروس، في حين دشنت إسرائيل نظام فصل عنصري واقعي في المناطق الفلسطينية.