بعد اختراع الطباعة، كان الكتاب الأكثر طباعة ورواجاً هو "Malleus Maleficarum" (مطرقة السحرة) لكرامر وسبرينغر الذي نشر عام 1487.
قدم الكتاب وصفاً مفصلاً للسحر، وطرق التعرف إليه، وقدم المبررات الدينية لإحراق السحرة حيثما وجدوا. بذلك سرت في أنحاء أوروبا موجة هستيريا اجتماعية وأدب الخوف والخرافات والذعر الأخلاقي. وبدعم من السلطات القائمة، قدم الكتاب التبرير اللاهوتي لإعدام 40.000 و60.000 معظمهم من النساء، استمر من أواخر القرن الـ15 إلى أوائل القرن الـ18.
فيما يمر المجتمع الأميركي بتحول يزعزع ثوابته، وفيما تعمق التقنيات الحديثة الأزمة الثقافية والاجتماعية، ويرتفع القلق الاجتماعي؛ يعيدنا هذا الإرباك الذي تقوده الميديا المدعمة بالذكاء الاصطناعي، إلى الصورة السابقة ذاتها من طيش وفوضى اجتماعية لتعزز الرهاب والتمترس الثقافي والأخلاقي.
قبيل الانتخابات الأميركية عام 2024، تشير البحوث الإعلامية إلى مخاطر حقيقية لتسعير الذعر الجماعي وهستيريا القلق المشترك لدى الجمهور، بما يمكن أن يزعزع مرجعيات الديموقراطية ويشيع العصبيات، ويتحول الإعلام المندمج بالميديا والذكاء الاصطناعي، ساحة للقتال المستميت، ليس بالنسبة إلى الحزبين الأميركيين بل بالنسبة إلى القوى الخارجية المتربصة باختراق الرأي العام الأميركي والتأثير فيه.
لذلك، تشعر أوساط واسعة من الأميركيين المعتدلين واللاحزبيين، أن لا شيء يمكن أن يهدد الليبرالية - الديموقراطية كما يهددها تآكل هذه القيم بسبب عدم ضبط هذه الأدوات.
في انتخابات 2016 استخدمت المعلومات المضللة لنشر الذعر والتفرقة والقلق والعصبيات بين مكوّنات المجتمع الأميركي. وتفاقم هذا المنحى في انتخابات 2020 عبر تفكيك المزيد من مرجعيات الحقيقة والموضوعية، على حساب المناخ الديموقراطي في البلاد. وفي 2024، تهدد هذه الأجواء بمحاصرة مجمل النظام البيئي للمعلومات والحقيقة وتآكله بالنسبة إلى المواطن، عبر إغراقه ببحار من عدم الدقة والتضليل والتلفيق.
وفي المقابل، يخفض هذا المناخ ثقة الجمهور بمصادره، وتنحدر المعايير الصحافية والعلمية وتتلاشى مرجعية الحقيقة في الوقائع والسرديات، إذ ينشئ الذكاء الاصطناعي بيئة افتراضية، قادرة على تزوير الشخصيات والأحداث على حد سواء، لينتج هذا الواقع تقسيماً اجتماعياً جديداً، بين من يستطيعون الوصول إلى مصادر الحقيقة ومن لا يستطيعون.
في الأشهر الماضية، تسببت صورة أُنشئت بالذكاء الاصطناعي عن انفجار في البنتاغون في انخفاض قصير في سوق الأسهم. وبعدها انتشرت صور مزيفة لترامب يقاوم اعتقاله من قبل ضباط الشرطة. وأصدرت اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري إعلاناً يظهر صوراً للكوارث الافتراضية التي ستنجم عن إعادة انتخاب بايدن. ليست هذه سوى أمثلة عابرة.
لطالما أحاط التزييف بالدعاية الانتخابية. لكن العقبات اللوجستية والتقنية كانت كفيلة في الماضي بتخفيض قدراته. أما الآن فيمكن بمهارات رقمية بدائية، إنشاء محتوى مضلل، عبر الذكاء الاصطناعي بسرعة وسهولة فائقتين، لا يمكن لمدققي الحقائق كشفه ولا فضحه.
بحسب جوش غولدشتاين من جامعة جورج تاون، "يمكنك الحصول على نموذج لغوي ينتج مقالاً" بلغة أجنبية ثم يعيد صوغه "كي يوحي بأنها لغتك الأم". ولقد اعترف، العام الماضي، عدد من النشطاء المتطرفين، بإجراء أكثر من 67000 مكالمة آلية تستهدف تسعير مشاعر الغضب عند الناخبين السود. يتيح هذا التحول فرصاً جديدة للدول الأجنبية لتأثير في الانتخابات وتقويض نزاهتها.
رغم ما تسببه هذه النشاطات من تلوث كبير للنظام البيئي للحقيقة، بما يهدد ثقة الناس بمصادر المعلومات، يصير تقدير الضرر الناجم عن الحملات المضللة والمواد المزيفة أمراً صعباً للغاية، بخاصة في ظل زحف النسخ الانتخابية للذكاء الصناعي.
وبعكس ما هو مطلوب، تتراجع منصات التواصل الاجتماعي عن جهودها لتقليص المحتوى الزائف، في وقت تتيح المنصات المفتوحة مساحة واسعة لإنتاج المحتوى الإعلامي المضلل.
لذلك تصبح العودة إلى منصات الإعلام التقليدية الطريق الوحيد المتاح لمحو الأمية الإعلامية للجمهور، وتثبيت مرجعية محددة للحقيقة والموضوعية.
لكن، من جهة أخرى، سهلت التحولات في طبيعة الإعلام والتواصل استفراد عدد قليل من الأفراد بدور هائل في تشكيل المحتوى الإعلامي الكوني مثل إيلون ماسك ومردوخ، لينمو خطر تحويل الإعلام التقليدي من أداة بيد المصلحة العامة إلى أداة تهدف للربح عبر الإثارة.
وفي المقابل، يشكل ميل منصات الإعلام التقليدية إلى إرضاء جميع الأطراف، واتخاذ موقف حيادي زائف، بين الحقيقة والتضليل، تهديداً لما تبقّى من دور لمنصات الإعلام التقليدية.
تكرست عبر العقود العلاقة التكافلية بين وسائل الإعلام والانتخابات في التقاليد الديموقراطية. لكن إذ يصبح شعار "الواشنطن بوست" "في الظلام تموت الحقيقة" رمزاً للحملة المناهضة للتضليل، تتطلب إعادة تنوير البيئة الانتخابية توفير ضوابط فاعلة تنظيمية وقانونية لمعايير النشر وشحذ الأدوات المضادة للتضليل.
وفي مواجهة تأثير منصات التواصل الاجتماعي وتبدل الظروف الهيكلية لسوق الإعلام، هناك الكثير من الجهود المطلوبة. فبالنظر إلى اعتماد الناخبين المتزايد على هذه المنصات الإعلامية للحصول على المعلومات السياسية، تعكف كثير من المراكز الإعلامية المرجعية على التعمق في فهم تعقيدات التضليل الإعلامي الحديث.
يتشارك الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام. لكن تفكيك شيفرة التضليل المعلوماتي لا يتطلب جهوداً مستحيلة. فسرعان ما سنكتشف أن الأمر يعود إلى معضلتين: ملكية وسائل الإعلام، والتمويل السياسي للانتخابات.
يؤدي تمركز وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والمنافذ الإعلامية المتعددة في يد عدد قليل من الشركات أو الأفراد بحد ذاته إلى نقص في تنوع التغطية الإخبارية. وبدوره، يلعب التمويل السياسي وتمويل وسائل الإعلام دوراً مهماً في تشكيل المحتوى الإعلامي، وبالتالي الرأي العام.
ترد الجهات المسؤولة عن وسائل التواصل الاجتماعي على الانتقادات، بأن استفراد الشركات الممولة للإعلانات، والاشتراكات والتبرعات الخاصة بالإعلام التقليدي، تجعل وسائل الإعلام تتردد في انتقاد الشركات أو السياسات المواتية للمعلنين. ويرد المدافعون عن دور وسائل الإعلام التقليدية، بالتركيز على فضح العلاقات الجديدة بين مالكي وسائل التواصل الاجتماعي والشركات الكبرى بحيث تمس بعمق نزاهة إدارة المعلومات وتحبط الجهود المناهضة للتضليل السياسي في فضائها.
وأمام هذه التخمة الإعلامية، تتلمس قوى دولية عديدة فرصاً كبيرة، إذ يتم الترويج لحرب أهلية وشيكة في الولايات المتحدة. ولا يتعلق الأمر بالتأثير الفعلي على التصويت، بل بتقويض الثقة بالمؤسسات المرجعية للحقيقة بدءاً من النظام التشريعي، إلى القضاء والأكاديميا، والإعلام.
لطالما تم تعريف الديموقراطية على أنها "فن إدارة الفوضى الاجتماعية في سياق تطور الرأسمالية الجامح"! لكن إدارة الفوضى بدورها، تتطلب حداً أدنى من الضوابط لمنع انفجارها.
ستكون الانتخابات المقبلة اختباراً شديداً ومشوقاً لجودة هذه الضوابط وفاعليتها. ولن يطول بنا الانتظار!