علي حمادة
سوف يتعين على كل من الولايات المتحدة، الصين وروسيا، مراقبة نتائج الانتخابات التشريعية التي شهدتها الهند وإجراء دراسة معمقة لنتائجها التي أعلنت منتصف الأسبوع المنصرم. فالهند تعتبر إحدى أهم القوى العالمية الحالية، وهي قوة صاعدة تجمعها علاقات معقدة بكل من القوى الثلاث الكبرى الأخرى، الولايات المتحدة، الصين وروسيا.
فالانتخابات التي أجريت على مراحل انتهت بفشل رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزبه "بهاراتيا جاناتا" في الحصول على 400 مقعد من أصل 543 في البرلمان كان مودي يعد مناصريه وحزبه بها. لكنه حصل على 240 مقعداً بتراجع كبير عن عدد المقاعد الـ353 التي كان يملكها في البرلمان المنتهية ولايته. ومع أنه سيتمتع بأغلبية نسبية مع حلفائه من الأحزاب الصغيرة المنضوية في ائتلاف "ان دي آي"، فإنها ستكون أكثرية ضئيلة لن تتجاوز 292 مقعداً، ما يعني أن الحزب الحاكم ورئيسه الكاريزماتي ناريندرا مودي سوف يستمران في حكم الهند لولاية ستدوم خمس سنوات مقبلة. لكن سلطة مودي الذي جعل من الانتخابات نوعاً من الاستفتاء على شخصه وزعامته ستكون أضعف مما كانت عليه في الولايتين السابقتين عندما كان يحكم بقبضة من حديد البلد الذي يتمتع بأكبر كثافة سكانية في العالم. في المقابل، انتزعت أحزاب المعارضة التي تتحلق في تحالف "إنديا آلاينس" حول "حزب المؤتمر" التاريخي بزعامة راهول غاندي المتوقع انتخابه زعيماً للمعارضة هذا الأسبوع ما يصل إلى 233 مقعداً، ما سيمكّنها من ممارسة معارضة أكبر وأكثر فاعلية.
لقد ركز مودي حملته الانتخابية على شخصه. ووسّع الحيز المتعلق بالتوترات الدينية والطائفية في البلاد، متصدراً حملات التضييق على مكونات أخرى كبيرة في البلاد مثل المسلمين. كما أنه وضع العنوان القومي الديني فوق العناوين الأخرى الاقتصادية والمعيشية التي بدا أنها تهم الناخب الهندي. ولم يستطع أن يستغل الأرقام الاقتصادية الإيجابية التي حققها خلال العقد الماضي. فقد تحولت الهند إلى قاعدة تصنيعية عالمية طامحة لأن توازي ما تمثله الصين حالياً، وعينها على المرتبة الثالثة كأكبر اقتصادات العالم.
لم يمنح مودي القضايا المعيشية التي تهم مئات الملايين من المواطنين المرتبة الأولى في خطابه الانتخابي. بل ركز الحملة على التوترات الدينية القومية، وحوّل الانتخابات إلى استفتاء على شخصه، ما أفقده الكثير من الأصوات الثمينة في ولايات الشمال التي كانت تعتبر معاقل لحزبه، فخسر قواعد كبيرة في هذه المعاقل، لا سيما في ولايات أوتار براديش، راجستان ومهاراشترا، في وقت ركزت فيه المعارضة على عناوين الديموقراطية، القضايا المعيشية والمساواة بين المواطنين وفق دستور 1950 الذي يمنع التمييز بين المواطنين بغض النظر عن دياناتهم أو أصولهم.
بهذا المعنى يمكن القول إن مودي العائد إلى موقعه للمرة الثالثة على التوالي، سيكون أضعف من ذي قبل. لكنه سيتمكن من ممارسة السلطة نظراً إلى تمتعه بأكثرية في البرلمان الجديد. لكنه لن يتمكن من مواصلة سياساته الداخلية كما كان يأمل، أقله في السنوات الخمس المقبلة، باعتبار أن المعارضة خرجت من هذا الاستحقاق أقوى فيما سقط مودي في امتحان الاستفتاء على شخصه، وعلى تحويل الحكم في الهند شيئاً فشيئاً إلى المركزية مع تقوية البعد القومي. ومن هنا يعتقد العديد من المراقبين أن مودي سيركز اهتماماته أكثر على القضايا والتحديات الاقتصادية والمعيشية في الداخل.
سيتعين على الولايات المتحدة أن تراقب بحذر شديد المرحلة المقبلة في الهند. فالعلاقات التي تحسنت كثيراً في المدة الأخيرة ستكون تحت الاختبار، لا سيما أن الهند بقيادة مودي كانت تطمح إلى أن تسير على خطى الصين في العقود الثلاثة الماضية، لتصبح قاعدة صناعية وتكنولوجية عالمية، وأن تستقطب المزيد من الاستثمارات تحت عنوان تنويع سلاسل التوريد العالمية، في ضوء ازدياد التوتر بين الولايات المتحدة والصين بسبب التنافس الاستراتيجي المحموم بينهما. وللتذكير فإن الهند عضو في مجموعة "كواد" الدولية التي تضم، إلى الولايات المتحدة، أستراليا واليابان. وهدف المجموعة الاستراتيجي العمل على احتواء "طموحات" الصين الإقليمية الاستراتيجية في المحيطين الهادئ والهندي.
بالنسبة إلى الصين، من الواقعي القول إن هذه النتائج تريح بكين إلى حد بعيد. فسياسة الهند تحت حكم حزب "بهاراتيا جاناتا" وناريندرا مودي تركز خصوصاً على منافسة الصين وانتزاع مكاسب اقتصادية كبيرة، مستغلةً التوتر في العلاقات بين الصين والغرب عموماً، فضلاً عن أن الهند، في ظل فشل كل المحاولات لحل الخلافات الحدودية بين البلدين، منحازة بوضوح إلى الغرب وحليفيه في المنطقة، أستراليا واليابان، في سياسة احتواء الصين على المستويين الاقتصادي والعسكري.
تبقى روسيا التي تنظر بعين راضية إلى نكسة مودي الذي اتخذ بشأن حرب أوكرانيا موقفاً محايداً ويميل عموماً إلى الغرب مع تنامي العلاقات مع الولايات المتحدة. لكن الهند تعتبر مستورداً رئيسياً للنفط الروسي بأسعار رخيصة، فضلاً عن أنها لا تزال تعتمد في تسليح جيشها على روسيا إلى حد كبير. لكن في السنوات الأخيرة باشرت الهند سياسة تنويع مصادر السلاح وعقدت لهذا الغرض صفقات لشراء أسلحة متطورة من دول غربية كبرى.
استنتاجاً، قد تكون انتخابات 2024 الهندية قد شكلت نكسة لرئيس الوزراء ناريندرا مودي، لكنها حققت انتصاراً كبيراً لفكرة المؤسس جواهر لال نهرو الذي حلم سنة 1949 بدولة ديموقراطية تعددية تتساوى فيها جميع المكونات الدينية والجهوية والاجتماعية.