البعض منا يظن أن كثرة وحجم الاحتفالات وتكرارها واستمرارها وتضخيمها يعكس كثرة وحجم الأفراح والسعادة لأصحاب المناسبة وذويهم، والحقيقة أن هذا النوع من التفكير بحاجة لمراجعة وإعادة تفكير وربما هو بحاجة لعلاج من متلازمة الهدف الخفي، ففي ظني أن المصارحة تقتضي القول بأن نسبة كبيرة جداً من تلك الاحتفالات خاصة حفلات تخرج الطلبة والطالبات تقام تحت عناوين الفرحة والبهجة بتخرج الأبناء والبنات، والحقيقة أن هدفها الحقيقي مختلف ربما تماماً.
علّمتنا الصحافة أن نشكّ حتى نصل للحقيقة، صحيح أن في مجتمعنا أناساً بسطاء وطيبين وعلى سليقتهم ويتصرفون بطبيعتهم وتلقائيتهم، لكن حجم ظاهرة الاحتفالات المفرطة والباذخة أحياناً بتخرج الأبناء والبنات الطلبة والطالبات في مجتمعاتنا، يضع علامة استفهام حول المستفيد الفعلي من هذه الاحتفالات المبتذلة ويحتّم علينا أن نسأل عن صاحب المصلحة من استنزاف الأسر التي لا تملك إلا ما تسدد به فواتير الماء والكهرباء والهاتف نهاية الشهر للانخراط في ظاهرة هي ابتذال في كثير من الحالات ولا تمت بصلة لفرحة الأسرة أو فرحة أبنائها وبناتها.
صحيح أن العيب الاجتماعي لا تزال له سطوة وتأثير، ولا يزال يخشاه الناس الطيبون وأنقياء السريرة، وبسببه يمارس البعض منا (خشيةً من العيب الاجتماعي في عدم مجاراة الآخرين) سلوكيات وينخرط في ممارسات ليست منطقية أحياناً وليست في قدرته مادياً مواكبتها، لكن من السذاجة إبداء حسن النية حول الاستنزاف المادي الذي تتعرض له الكثير من الأسر خاصة «المستورة» منها، تحت ذريعة الفرحة بتخرج الابنة أو الابن.
إذا كانت حفلات التخرج تلقائية وطبيعية ولا تشوبها شائبة، كيف نفهم إقامة حفلات التخرج قبل الاختبارات؟ كيف يستقيم المنطق في إقامة حفلات التخرج قبل إعلان نتائج الطلبة والطالبات؟ ما علاقة هذا النوع من الحفلات بفرحة التخرج؟
ليس لدي مشكلة أو تحفظ أو حرج من احتفال الأسرة أو العائلة بابنها أو ابنتها بأي مناسبة يرون لها مردود نفسي أو اجتماعي على الأسرة أو أحد أفرادها، لكنني لا أفهم تربوياً معنى ودلالة احتفال سنوي بتخرج طلاب مدرسة ابتدائية أو متوسطة أو ثانوية أو حضانة أو روضة أطفال!
كلا.. نحن لسنا في بلدٍ أو زمنٍ يفتقر للمناسبات الحقيقية النوعية الجديرة بالاحتفال والتكريم وتكون فيه المكافأة من جنس العمل. ما الذي يضطرنا للتمايز الطبقي بين من يملك ومن لا يملك، في وقت أتاحت وأشرعت لنا رؤية المملكة فرصة التمايز بين الجودة واللا جودة، وبين الإنجاز واللا إنجاز، بين التفكير واللا تفكير، بين العقول واللا عقول.
يا أهلنا.. لقد حقق طلابنا 23 جائزة رئيسية و4 جوائز خاصة في معرض ريجينيرون الدولي للعلوم والهندسة آيسف 2023، وحصد طلابنا 27 جائزة في أكبر منافسة عالمية في مجال الأبحاث العلمية للمرحلة ما قبل الجامعية، كما حصد طلابنا 18 جائزة كبرى في معرض ريجينيرون الدولي للعلوم والهندسة آيسف لهذا العام 2024 في منافسة مع 1700 طالب وطالبة من 70 دولة حول العالم، فلا يجوز ألا تنعكس هذه الإنجازات النوعية على احتفالات التخرج التي لا تقيم وزناً ولا اعتباراً ولا قيمة للنوعية والإبداع والابتكار، فكأنها تعيش في كوكب آخر بعيد ومنفصل عن ثقافة الاحتفالات النوعية التي يجب أن تحفّز وتشجع جميع الطلاب والطالبات في كل المراحل التعليمية على قدم المساواة.
أخيراً، يجب أن تدرك وزارة التعليم وكافة المؤسسات ذات الصلة بأن العبقرية قد تكون فردية، لكن البيئة التعليمية والمناخ الأسري والاجتماعي العام هي حواضن حتمية بالغة الأهمية لتتفتق فيها تلك العبقريات في وقتها المناسب، ولا بد أن تدرك وزارة التعليم بأن مؤسسة موهبة ليست إلا مرحلة من مراحل الكشف والاحتضان لبعض المواهب والإبداعات والابتكارات بنسب ضئيلة ومحدودة، أما القطاع العريض والغالبية الساحقة من أبنائنا وبناتنا فهم خارج رادار مؤسسة موهبة، وهو ما يجب أن تعمل عليه وتتبناه وزارة التعليم والمؤسسات ذات العلاقة من خلال ردم الهوة الكبيرة بين ثقافة الاحتفالات الكمية والاحتفالات النوعية.