تكررت المظاهرات والاحتجاجات والثورات الشعبية في أكثر من مكان في العالم الثالث في السنوات الأخيرة على خلفية فشل بعض الأنظمة السياسية والأحزاب السياسية الحاكمة في تلبية المطالب المعيشية والحقوقية لمواطنيها وجماهيرها، بل فشلها في إدارة البلاد ومواردها بطريقة سليمة وتأمين الماء والدواء والعلاج والتعليم والسكن اللائق وغيره. ولعل آخر الأمثلة في القارة الآسيوية ما حدث في مارس 2022 في سريلانكا التي شهدت ثورة شعبية فاجأت العالم بأسره ضد نظام رئيسها آنذاك «غوتابايا راجاباكسا»، الذي طبقت حكومته سياسات مالية وضريبية وزراعية أفقرت البلاد والعباد.
وقتها هاجمت الجماهير الغاضبة من تردي أحوالها المعيشية، القصر الرئاسي واقتحمته دون أن تنجح قوات الأمن في صدها، ثم راحت تحتفل في الشوارع بانتصارها، خصوصاً بعدما تأكدت من هروب رئيس البلاد وحاشيته.
بعد ذلك بأيام، أعلن أن الرئيس راجاباسكا قد استقال، فاستبشر السريلانكيون بمختلف فئاتهم وأعراقهم وتوجهاتهم خيراً، واعتقدوا أنهم باتوا على مشارف تغيير سياسي نوعي وعهد ديمقراطي جديد ومكاسب شعبية طال انتظارها، غير أن المشهد الحالي بعد سنتين من ذلك الحدث المزلزل غير المسبوق يوحي بأن لا شيء قد تغير سوى رموز السلطة ووزراء الحكومة.
كان أحد أسباب تبخر أحلام الجماهير السريلانكية هو حقيقة قيامها بثورة عفوية دون تخطيط ومن غير قيادة واعية ومستعدة لملء الفراغ. وبعبارة أخرى افتقر المحتجون المنتمون لمشارب مختلفة ومتضادة إلى أجندة واضحة وقيادة موحدة، وكان هدفهم آنياً بحتاً تمثل في الإطاحة بالرئيس ونظامه ومحاسبته فقط. ولهذا قفز سياسي من العهود السابقة هو رئيس الوزراء السابق «رانيل ويكرمسينغا» إلى الواجهة ليملأ الفراغ ويقبض على زمام السلطة، ثم ليستخدم سلطاته في فرض إجراءات أمنية صارمة وحالات طوارئ باسم المحافظة على أمن واستقرار البلاد، مع وعود بإصلاح الأحوال وتأسيس نظام ديمقراطي جديد.
والحقيقة أن الفشل الذي حدث بعد أحداث مارس 2022 في هذه البلاد التي كانت مؤهلة لأن تصبح دولة واعدة في جنوب آسيا، هو تكرار لسلسلة طويلة من الفشل والإحباط والانكسار والتمزق والحروب والصراعات العرقية وخروقات حقوق الإنسان بدأت منذ تنافس المستعمرين البرتغاليين والهولنديين عليها. وهي وإن توحدت واستقرت في عام 1815 تحت سيطرة البريطانيين الذين نجحوا في إعادة هيكلة اقتصادها من خلال تنمية أراضيها الزراعية الخصبة وإنشاء مزارع ضخمة لزراعة الشاي والقهوة يعمل فيها فلاحون مستوطنون من تاميل الهند، إلا أن مقدراتها ومواردها وصناعاتها الوطنية بعد نيل استقلالها في عام 1948 ظلت مرتبطة ومتأثرة بماضيها الاستعماري.
صحيح أن سريلانكا اختطت لنفسها بعد الاستقلال نظاماً ديمقراطياً برلمانياً على النمط البريطاني، إلا أن التوترات العرقية والثقافية بين الأغلبية السنهالية من ذوي الثقافة البوذية والأقلية التاميلية من ذوي الثقافة الهندوسية أفسدت كل شيء، بدليل أن تلك التوترات أفضت في نهاية المطاف إلى حرب أهلية مدمرة استمرت لجيل كامل وسخرت لها الدولة كل مواردها وطاقاتها وقضت على أرواح مئات الآلاف من الأبرياء. ففي عام 1983، ومن بعد عقود من الإذلال والحرمان والقمع بدأ التاميليون تمردهم بشكل عنيف سعياً وراء الانفصال في دولة مستقلة، فما كان من الحكومة التي يهيمن عليها السنهاليون إلا مقابلة العنف بالعنف واستخدام ما تحت يدها من بيانات وسجلات للانتقام من الأسر والمجتمعات التاميلية، الأمر الذي أدى إلى انتشار العنف بشكل واسع وقيام ما عرف بحركة «نمور التاميل» بسلسلة من التفجيرات والاغتيالات التي أدت بدورها إلى حرمان البلاد من مواردها السياحية ومحاصيلها الزراعية.
واستمر الحال على تلك الوتيرة إلى عام 2009 حينما أعلنت الحكومة نجاحها في القضاء على المتمردين التاميل وانتصارها في الحرب من بعد ربع قرن من العمليات المسلحة. وعلى الرغم من انتهاء الصراع، إلا أن حكومة الرئيس راجاباكسا الذي استمد شرعيته من نجاحه في إنهاء تمرد نمور التاميل حينما كان وزيراً للدفاع وقائداً للجيش، واصلت ملاحقتها وتعذيبها للمعارضين السياسيين من التاميل. ويبدو أن النهج ذاته مستمر في عهد الرئيس الحالي من خلال قانون مكافحة الإرهاب الذي يتيح الاعتقال والتعذيب والملاحقة والترهيب. ولعل أقوى دليل على صحة كلامنا هو طرح ملف سريلانكا أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف في الأول من مارس من العام الجاري، حيث أشار المفوض الأممي السامي لحقوق الإنسان «فولكر تورك»، أمام الهيئة المجتمعة إلى بعض من أسباب ثورة السريلانكيين قبل عامين مثل الفساد وسوء الإدارة والقمع والملاحقة وعدم المساواة.