كلما دخلت مجلسًا أو رأيت وجهًا من تلك الوجوه التي ألفت رؤيتي ناقدًا أدبيًا أفضت إلى بتلك الأسئلة القديمة الجديدة:
لماذا هجرت الشعر الشعبي؟
أو لماذا تركت الكتابة في الشعر الشعبي؟
إن جمهرة الشعر الشعبي يريدوننا أديبًا وناقدًا أدبيًا في كل الأحوال والظروف بل وفي كل الأمكنة والأزمنة.
قبل أيام قابلت رجلًا قال لي إنه يقرأ لي أيام (صورة على الشفق) في صحيفة الجزيرة المسائية ويقرأ بعض الدراسات النقدية التي كنت أنشرها عن مجموعات من الشعراء في صحيفة الجزيرة، ويتساءل عن سبب انحسار كتاباتي في الشعر الشعبي رغم أنني في بعض الأحيان أكتب وأحاضر في الشعر الشعبي فنظرتي للشعر الشعبي هي نفس النظرة التي أنظر بها إلى غيره من الفنون والآداب الأخرى، فأنا آخذ بذلك الرأي أو تلك المدرسة التي ترى أن الكاتب الحقيقي هو الذي يكتب في الآداب والاجتماع والفلسفة والسياسة والاقتصاد والتاريخ.
فقد كنت على مدى سنوات طويلة على علاقة وثيقة بالأدب والنقد الأدبي قارئًا ومتذوقًا وكاتبًا ودارسًا وناقدًا ومشاركًا في صنع التجربة الأدبية والنقدية سواءً من خلال الندوات والمنتديات والملتقيات الأدبية أو من خلال الكتابة الأدبية والنقدية.
فلقد أمضيت زمنًا طويلًا من حياتي قريبًا من الأدب والنقد الأدبي، إلا أنه بعد سنوات دخلت على حياتي الأدبية تجارب ثقافية وفكرية أخذتني عن الأدب والنقد ولا سيما بعد أن أخذت نفسي بالتعليم المتواصل في حقل الدراسات الشمولية وأثرت في تركيز تفكيري على الموضوعات والقضايا الفكرية والثقافية إلا أنني بين حين وآخر أجدد علاقتي بالأدب والنقد الأدبي.
في أوائل الثمانينيات الميلادية اجتاح الوسط الأدبي حركة شعرية شعبية واسعة شكلت أكبر انعطاف في الحياة الأدبية وأحدثت تحولًا وانتشارًا واسعًا في الشعر الشعبي، حيث ظهر في تلك الفترة نتاج شعري لم يسبق له مثيل، وذلك بعد أن هيمن الشعر الشعبي واستحوذ على المشهد الأدبي وبرهن على وجوده، وتسيد الحياة الأدبية، وقد سعت قنوات الإعلام وخصوصًا الصحافة العامة ومن بينها المجلات الأدبية إلى استقطاب وتبني هذه الظاهرة الشعرية ووقفت منها موقفًا منحازًا وصارت أكبر حليف لها.
تعود بداية علاقتي بالشعر الشعبي إلى عقد الثمانينيات الميلادية، وإلى تلك الدراسة النقدية التي نشرتها في ملحق الأسبوع الأدبي في صحيفة الجزيرة لكتاب (مختارات من شعراء الحريق) لعبد العزيز بن شنار، ووجدت تلك الدراسة استجابة من بعض أنصار الشعر الشعبي، فقد كنت كتبتها على المنهج النقدي الحديث لدراسة الشعر، ومن ثم نشرت دراسة نقدية أخرى على نفس المنهج لمجموعة (صدى الأشواق) للشاعر راشد بن جعثين، ووجدت تلك الدراسة قبولًا حسنًا لدى الشاعر فنشرها كاملة في الطبعة الثانية من مجموعته الشعرية.
شكلت تلك الدراسة مدخلًا لي للانفتاح على الشعر الشعبي، فقد كنت في ذلك الوقت أنشر ما بين حين وآخر كتابات وقراءات أدبية ونقدية وكانت صحيفة الجزيرة المسائية في طور التشكل والتكون وعلى إثر تلك الدراستين النقديتين فاتحني عثمان العمير والذي كان حينها يشغل منصب نائب رئيس تحرير صحيفة الجزيرة ويشارك خالد المالك رئيس تحرير صحيفة الجزيرة فكرة المسائية، في وضع تصور لملحق أسبوعي في الشعر الشعبي في الجزيرة المسائية فكانت (صور على الشفق)، والتي كانت تصدر مساء كل ثلاثاء، كانت فكرة (صور على الشفق) تقوم على نظرية أن الشعر الشعبي امتداد للشعر العربي، وقد تبنت هذه الفكرة وانطلقت بها إلا أنها وجدت معارضة من أنصار الشعر العربي الكلاسيكي وعلى أثر ذلك حدث جدل وسجال في الوسط الأدبي.
استهدفت (صور على الشفق) جيل الشعراء الجدد، وقد وجد ذلك الجيل الاستجابة للنهج الأدبي الجديد الذي طرحته (صور على الشفق) والذي تلاءم مع مزاجهم الشعري، ما مكن تلك التجربة الجديدة من الانطلاق، وفي الوقت نفسه تعاطفت بوصفها تجربة أدبية جديدة مع نتاج الشعراء الجدد. وبغض النظر عما قيل حول تعاطفها من أنه كان على حساب الشعر، إلا أنها كانت تشق طريقها ماضية في توجهها، وفي الوقت نفسه استطاعت أن تكيف نفسها مع كل المذاقات الشعرية في نطاق الشعر الشعبي باعتبارها محاولة هي الأولى من نوعها لإعادة إنتاج الوسط الشعري الشعبي بطريقة منهجية جديدة، وكظاهرة مشروعة من الناحية الأدبية في طرحها ولغتها وتوجهها وجمهورها.
وقد ظهر - في ذلك الوقت - مجموعة من الشعراء الجدد أظهروا ميلًا للأفكار والموضوعات والصور الجديدة، ساعدت في توسيع مداركهم وأساليبهم الشعرية، لقد تركت الحياة الحديثة تأثيرها المباشر في الشاعر، باعتبار أن الشعر محاكاة للواقع، ومنبع للإلهام انعكس كل ذاك في الوعي الذاتي للشاعر، وشكل أساسيات تجربته والتي تقوم على فكرة مزج الفن بالحياة، والتوحد مع الفكر الجمالي.
فالشعر الشعبي الحديث أصبح اليوم فنًا ذاتيًا يجسد العالم الداخلي للشاعر، فقد تفشت النزعة الذاتية والفردية لدى الشعراء الجدد، وأصبحوا يتنقلون ما بين الشكل الفني والتأنق الجمالي وإيقاعات الشعر، وتصوير الواقع بصورة فنية، حيث رسموا الخط الإبداعي للشعر الحديث، وشكلوا النواة الأساسية للنزعة الجمالية الحديثة بامتلاكهم الوسائط والأساليب والوسائل التعبيرية والسمات الأسلوبية الخاصة بكتابة الشعر.