الظاهر أن مجلة «تايم» الأميركية لم تكن تقول أي كلام، عندما وضعت صورة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على غلافها، ثم كتبت تحتها عبارة تقول: «الرجل القادم في أوروبا».
كان ذلك قبل مجيئه إلى قصر «الإليزيه» بقليل، وكان وقتها لا يزال مرشحاً رئاسياً يقاتل في السباق الرئاسي، وكان يأمل في أن يفوز على منافسيه، وبالذات على مارين لوبان التي كانت على مرمى حجر من القصر. وقد تحقق أمل الرجل في 2017، وقضى سنوات ولايته الأولى الخمس في «الإليزيه»، ثم جاء به الناخب من جديد في 2022 ليقضي فترة ثانية وأخيرة.
كان وزيراً للاقتصاد قبل ترشحه في السباق الرئاسي، ومن الواضح أن الحس الاقتصادي غالب عليه؛ ليس فقط وهو يخطط لبلاده التي يراودها إحساس تاريخي لا يفارقها بالتفوق على بقية دول أوروبا، ولكن أيضاً وهو يتعامل ويتعاون مع سائر دول القارة العجوز.
والذين تابعوا خطابه في جامعة «السوربون» يوم 25 أبريل (نيسان) الماضي، لا بد من أنهم قد تذكروا ما كانت المجلة الأميركية قد راحت تبشر به على غلافها، ولا بد من أنهم قد رأوه في الخطاب وكأنه «زرقاء اليمامة» التي كانت ترى الخطر على مسيرة 3 أيام.
ورغم أن في الاتحاد الأوروبي 27 دولة تتمتع بالعضوية، ورغم أن في أوروبا دولاً ذات شأن -كألمانيا وبريطانيا على سبيل المثال- فإن فرنسا لا تزال ترى أن لها وضعيتها الخاصة بين الدول الأعضاء، وأن هذه الوضعية تمنحها الحق في قيادة القارة، وأن لها من القدرات والإمكانات ما يؤهلها لذلك، ويعطيها الأولوية.
وقد كانت -ولا تزال- ترى شيئاً من هذا في الطريقة التي تتعامل بها باريس مع موسكو، منذ أن قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القيام بعملية عسكرية في أوكرانيا قبل أكثر من عامين. فكل دول أوروبا قلقة من التوجه الروسي تجاه أوكرانيا، ولكن فرنسا قلقة أكثر، وكل العواصم الأوروبية رافضة للسلوك الروسي في الأراضي الأوكرانية، ولكن «عاصمة النور» تأخذ منحى آخر في رفضها، وقد وصل الرفض من جانبها إلى حد أن ماكرون لم يجد حرجاً في الحديث عن إمكانية إرسال قوات برية من بلاده إلى أوكرانيا، وهو الأمر الذي أثار جنون الروس في حينه.
ولا يمكن أن تنشأ هذه الحيوية السياسية لدى ماكرون من فراغ، ولا أن تكون مجرد رد فعل فرنسي يضاف إلى سواه من ردود الفعل الأوروبية، ولكنه رد له عمقه التاريخي الذي يجعل الفرنسيين يرون في أنفسهم ما لا يرونه في أي جنسية أوروبية سواهم، والذين يضيقون جداً إذا خاطبهم أحد من الزائرين أو الضيوف داخل البلد بغير اللغة الفرنسية.
إن في أوروبا دولتين فقط تتمتعان بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، هما فرنسا وبريطانيا، وبما أن الأخيرة غادرت الاتحاد الأوروبي ورأت نفسها خارج أسواره، ففرنسا ليست باقية فيه فقط، ولكنها طامحة إلى قيادته وقيادة الأوروبيين جميعاً، وهي لا تفعل ذلك عن عاطفة تدفعها وتحركها، ولكن تفعله عن شعور كامن لديها بأن الولايات المتحدة الأميركية إذا كانت رابضة هناك على الشاطئ الغربي للمحيط الأطلنطي، فالفرنسيون قائمون هنا على شاطئه الآخر، ليس بالمعنى الجغرافي وحده طبعاً، وإنما بالمعنى السياسي في الأساس.
تتصرف فرنسا في عالمها على هذا اليقين لديها، ولا يخلو الأمر من أشياء تفلت لتشير إلى ذلك، كما تفلت زلات اللسان على مستوى الأشخاص.
ومن المفهوم أن الدولتين الأوروبيتين اللتين تتمتعان بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، هما الدولتان النوويتان الوحيدتان في القارة، ولأن بريطانيا اختارت طريقها خارج الاتحاد، فهذا مما يشجع فرنسا على أن تبني فوق ذلك وتعلنه.
وعندما وقف الرئيس الفرنسي يخطب في «السوربون»، لم يشأ أن يغيب عن الاتحاد الأوروبي معنى أن فرنسا الدولة النووية الوحيدة فيه، وأن على الاتحاد أن يتنبه إلى الأخطار المحيطة به، وبالذات من الناحية الروسية الطامحة والطامعة، وأن في مقدور دول الاتحاد أن تبني نظاماً دفاعياً ذاتياً تكون القوة النووية الفرنسية هي أساسه.
وليس سراً أن الشعور بالخطر لدى الأوروبيين قد ازداد في مرحلة ما بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، ويمكن القول بأنه شعور كان نائماً ثم استيقظ، وأنه لم يستيقظ إلا على وقع خطوات كانت تدب على الأرض من حوله في أنحاء القارة، وكذلك على الشاطئ الآخر من المحيط.
وكان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب هو الذي أيقظ هذا الشعور، خلال سنواته الأربع التي قضاها في البيت الأبيض، فهو لم يتطلع إلى حلف شمال الأطلسي الذي يضم بلاده مع الأوروبيين إلا من زاوية اقتصادية، وكانت خلفيته بوصفه رجل أعمال هي الأساس في النظر إلى الحلف من هذه الزاوية، ولكن مثل هذا التطلع الذي قدَّم الاقتصادي في الحلف على السياسي قد أثار قلق الأوروبيين، فلما عاد يردد المعنى نفسه في حملته الانتخابية الحالية تضاعف قلق الأوروبيين.
وفي الشهور الأخيرة، بدت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن غير مبالية بصيحات الاستغاثة التي أطلقتها كييف في مواجهتها مع موسكو، فزاد قلق الأوروبيين وفاض، ولم يكن خطاب ماكرون في «السوربون» إلا تعبيراً عن ذلك، فضلاً عن أن ساكن «الإليزيه» كان يقول ما قاله عن استشعاره المسؤولية عنده وعند بلاده تجاه أمن القارة كلها.
وفي كل الأحوال، يبدو إيمانويل ماكرون قلقاً أمامنا «وكأن الريح من تحته» تماماً كما عشنا نسمع في وصف مثل حالته من الشاعر القديم.