السلام هو غاية حركة التاريخ. في ظل حالة السلام يستطيع الإنسان أن يتمتع بحقوقه وحرياته، وبالتبعية: تزدهر الحياة السياسية.. وتنشط الحياة الاجتماعية.. وتنمو الحياة الاقتصادية.. وتتراكم المعرفة.. وتتطور التكنولوجيا، وتتقدم أخلاقيات الناس وتتهذب سلوكياتهم. السلام، على مستوى التحليل الأكبر (MACRO)، يدفع المجتمعات والدول لتبصر عائده، بدلاً من الاستسلام لأسر حالة الصراع. عند سيادة حالة السلام تجنح الدول، لخدمة مصالحها والذود عن أمنها، إلى وضعية التعاون والتكامل، وتَنْفُرُ من حالة الصراع والتنابذ. كلما تعززت حالة السلام، عظمت عوائد التنمية.. وتنامت أواصر التكامل.. وتغلبت الشعوب والمجتمعات على مشاكلها الحياتية، وخففت من غلواء تزمتها العقائدي.. وتطرف انحيازاتها القِيَمِيّة، ووحدة مزاجها النفسي والسلوكي.
منطقة الشرق الأوسط، بالذات شرق السويس، من أكثر مناطق العالم معاناة من عدم الاستقرار، التي تتطور من حين لآخر لحروبٍ طاحنة، تتخللها فترات قصيرة من هدوء هش، في ظل حالة حربٍ قائمة. من أهم مسببات عدم الاستقرار في هذه المنطقة الاستراتيجية، وجود إسرائيل القسري غير الطبيعي. إسرائيلُ زُرِعت زرعاً في المنطقة، وكان طبيعياً أن تلفظها جغرافية المنطقة وتاريخها.
لا إسرائيل، بقوة جبروت من وراءها.. ولا بفاشية عقيدتها الصهيونية الموسومة بلا إنسانيتها، استطاعت أن تفرض القبول بها في المنطقة. ولا العرب، بحقهم غير القابل للتصرف تاريخياً وجغرافياً ودينياً ومواردهم الغنية، استطاعوا أن يضعوا حداً للمسألة الصهيونية. الحل لا يكون إلا من خلال صيغة للسلام المستدام في المنطقة، يَفْرِضُ حالة من تعايش المضطر، يضع حلاً جذرياً لسياسة التوسع الإسرائيلي، ويضمن للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف. حتى تحظى إسرائيل القبول بها، عليها التخلص من أوهام الهيمنة الإقليمية.. ومن تراثها العنصري البغيض، مع تخليها عن ما تمتلكه من أسلحة غير تقليدية.
المملكة العربية السعودية، نزعم: أنها الدولة الوحيدة في المنطقة، التي تدعو وتعمل لسيادة سلام شامل حقيقي مستدام. بمبادرات السلام الحقيقية، لا محاولات الحلول المنفردة، بعيداً عن مقتضيات الأمن القومي العربي، صدرت من الرياض مبادرات أجمع عليها العرب ومحبو السلام في العالم، بدءاً من مبادرة قمة فأس العربية (نوفمبر 1981)، وانتهاء بقمة بيروت العربية (مارس 2002). صيغةُ مبادرات السلام السعودية بسيطة وعقلانية ومنطقية، تعكس حباً أصيلاً للسلام، تتضمن: الاعتراف بإسرائيل، مقابل انسحابها من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب يونيه 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس.
أكدت المملكة العربية السعودية، مراراً وتكراراً، هذا الموقف الثابت لسياستها الخارجية، في مناسبات عديدة، مشددة - خطاباً وسلوكاً - التزامها الراسخ بقضية الشعب الفلسطيني. جددت الرياض موقفها الثابت هذا، في بيان صادر من وزارة الخارجية يوم الأربعاء الماضي، بعد لقاء العُلا بين سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.
بيان وزارة الخارجية السعودية، كما يقول المثل: قطعت به جُهيزة قولَ كل خطيب. وضع هذا البيان حداً للغط، الذي يُثرثر به، عن «سيناريو» اليوم التالي للعدوان الإسرائيلي على غزة. حيث ركز الوزير الأمريكي على قضية الأسرى الإسرائيليين.. ومباشرة التطبيع مع إسرائيل، مقابل «التفكير» في «أفق» لإقامةِ دولةٍ فلسطينية، منزوعة السلاح و«الدسم»! الوزير الأمريكي، كان يتحدث وكأن إسرائيل انتصرت في الحرب وحان وقت حصاد غنائم العدوان! والجيش الإسرائيلي، في صدد إفراغ غزة من أهلها، لتعود إسرائيل لاحتلالها واستيطانها، تمهيداً لإفراغ فلسطين كلها، بمن فيهم فلسطينيو الضفة الغربية والخط الأخضر.. وإقامة دولة إسرائيل اليهودية الخالصة! طبعاً: في نهاية تنفيذ هذا «السيناريو» الأسود، يتبخر «الأفق» الذي يتحدث عنه الأمريكيون، في إطار مشروعهم لـ«حل الدولتين».
جاء الرد السعودي حازماً قاطعاً لتذكير إسرائيل والأمريكيين والعالم بموقف المملكة العربية السعودية الثابت من القضية الفلسطينية. اللافت، أيضاً: أن بيان وزارة الخارجية تحدث عن الاعتراف الدبلوماسي مع إسرائيل، ولم يزد!؟ في هذا ردٌ بليغٌ، بعيداً عن الدبلوماسية التقليدية المنمقة، على العرض الأمريكي في زيارته للمملكة.
المملكة العربية السعودية، دولة محبة للسلام، من المؤسسين الأُوَل لنظام الأمم المتحدة. في قضية السلام، لا تبحث الرياض عن أنصافِ حلول.. ولا تتطلع لتسويات منفردة، يتمخض عنها هدوءٌ هشٌ، غير مستقرٍ أو «سلامٌ» خادعٌ باردٌ «ماسخ»، لا طعمَ له ولا رائحة، يُبقي على حالة الحرب، انتظاراً لإشعالِ حربٍ جديدة.