قدرات الذاكرة تتفاوت بين الأفراد، حتى لو صرفنا النظر عن الأعمار. حتى أبناء الجيل الواحد، ولو كانوا من الجيل الشاب، فإن بينهم من يتميز بقدرة أكبر من زملاء لهم في السن نفسها على التذكر.
طبيعي أن الأمر تحكمه معادلة أخرى مع تقدّم العمر وتقادم الأحداث التي مرت وتواري تفاصيلها في مستودع الذاكرة الخلفي، بحيث لا تحضر على البال فور حاجتنا لاستدعائها، وبالتالي فإن قدرات من هم أصغر سناً على التذكر هي، كقاعدة، أفضل ممن هم أكبر منهم، وتتسع الشقة أكثر فأكثر كلما تقدّمت الأعمار، وما أكثر ما يقرأ المخضرمون تقارير توصف بالطبيّة من أنه كلما بكّرت علامات ضعف التذكر أنذرت باحتمالات الإصابة بالزهايمر.
لا يثير ذلك فزعكم أيها المخضرمون، وتفاءلوا بالخير تجدوه، ولا تسلموا بكل ما تقرؤونه، فما نريد تسليط الضوء عليه هنا هو أثر التقنيات الرقمية على نمو وتطوّر الذاكرة. والمخضرمون بالذات هم الأولى بعقد المقارنة بما كانت عليه أحوال التذكر عندهم قبل نشوء وتزايد نفوذ هذه التقنيات الرقمية وما أصبحت بعده، فالكثيرون كانت لديهم مهارات يُعتدّ بها في الرياضيات في صورتها الأولية، كالطرح والضرب والقسمة وغيرها، دون حاجتهم لاستخدام ورقة وقلم، وبالمثل كانوا هم أنفسهم أو سواهم يتمتعون بقدرات حفظ الأرقام والتواريخ والأحداث بتفاصيلها حتى لو مرّت عليها عقود لا سنوات فقط.
ليسأل الواحد منا نفسه اليوم: كم عدد أرقام الهواتف التي يحفظها عن ظهر قلب، كما يقال؟ نرجح أنها لن تتجاوز رقمين أو ثلاثة وإن زادت فإنها لن تبلغ العشرة، لأننا لم نعد بحاجة لتذكر أرقام حتى أقرب الناس إلينا. ستتولى ذاكرة الهواتف القيام بالمهمة ببحث لا يستغرق ثوانٍ. أردنا إن لم نرد فإن أمراً مثل هذا يعطل جزءاً من الذاكرة كان يمثل مهارة لدى أجيال أسبق، وليس هذا سوى مثال من الأمثلة.
ليس من باب الهجاء ل «غوغل» أبداً ما سنقوله الآن. نحن مدينون لهذه المنصة بالكثير لما تسديه لنا من خدمات، لم يعد بوسعنا الاستغناء عنها لا لضرورات البحث وحده، وإنما أيضاً لتيسيير أمورنا في الحياة. كم مرة في اليوم يعود الواحد إلى طيب الذكر «غوغل»، ونحن نتحدث مع بعضنا بعضا، حين يختفي من ذاكراتنا اسم شخص نريد الاستشهاد به، أو التعرف إلى من يكون شخص آخر نجده يتحدث على الشاشة مثلاً، أو لنخرج ظافرين في خلاف مع صديق نحادثه حول تاريخ واقعة ما. يكفي أن تضع العنوان على خانة البحث ويأتيك الخبر اليقين، وسيكون حظك سيئاً حين ينبئك «غوغل» بأن ما قلته أنت هو الخطأ!