ليست الحرب الحالية على قطاع غزة كسابقاتها. هذا ما يجمع عليه ألدّ الأعداء وأقصى المتنافرين. مع ذلك تجد طائفة من الناس ترتقب عند كل تعرّج أو تعقيد أن تُفرَض تهدئة ما تطول، لا يُعرَف من أين وكيف.
في هذا بعض من الخلط الأبدي بين الترقّب والرجاء. ليس هناك تغطية واقعية لهذا الخلط طالما لم يظهر بعد من معطى دامغ، ضاغط على نحو مثابر ومتصاعد، ومن خارج المشهد الكارثي الهمجي الحالي، يكون قادراً على إيقاف هذا المنحى التدميري ليس فقط للشعب الفلسطيني في غزة، إنما التدميري للحواجز والمناعات التي لا تزال تحول دون استتباب سمة «الحرب العالمية» لمجموع ما يحصل من حروب ونزاعات متقاطعة في القوس العريض الممتد من الدونباس إلى قطاع غزة، ووصولاً حتى باب المندب.
تعمل الولايات المتحدة الأمريكية وفقاً لمنظارها كي لا تتمدد رقعة النزاع الحالي بشكل يخرجه عن السيطرة. لكن النزاع يتخذ شكلاً غير معهود: مركّز بشكل كثيف في قطاع غزة، ومنمّي للتفاوت بين حال غزة وبين حال الضفة، فيما هو نزاع ممتدة ومبعثرة خارطته الإجمالية، لأنه يتضمن أيضاً احتداماً – رغم تفاوت الحال – في الضفة (مع خطر خروج المستوطنين «عن السيطرة» أيضاً)، واستنزافاً في جنوب لبنان – الجليل، وساحتين للمراسلة الحربية، سورية وعراقية، وانخراطاً حوثيّاً – يمنيّاً يلهب كل منطقة حوض البحر الأحمر.
هناك دائرة مركزية للنزاع قطرها يقتصر على عشرات الكيلومترات، وهناك دائرة شاملة يمتد قطرها لآلاف الكيلومترات.
الولايات المتحدة لا يبدو أنها راغبة، أو أقله مستعجلة، في أن تتحول الحرب إلى مباشرة وشاملة مع إيران وحلفائها في المنطقة. لا يمكن قول الشيء نفسه عن إسرائيل التي لا يمكن شطب احتمال استهدافها للمنشآت النووية الإيرانية في أي وقت.
أما بالمعطى الاستراتيجي العام، فيتمثل بتأرجح إدارة جو بايدن الحالية، في أنها إذ أوجدت سرديتها من خلال العمل على إلغاء كل آثار ورواسب عهد دونالد ترامب، فإنها لم تحد أنملة عن كل ما اتخذه ترامب من قرارات سواء لصالح إسرائيل (تسييدها على الجولان، ونقل السفارة إلى القدس) أو ضد إيران.
شهدت هذه الحرب هدنة ويمكن أن تشهد هُدنا جديدة، مرتبطة بعمليات تبادل الرهائن مع الأسرى والسجناء. لكن هذه الهُدَن حتى ولو رسمت ايقاعاً أكثر تقطعاً للحرب، فهي لن تتكفل بإخمادها واحدة في إثر أخرى
فالاتفاق النووي الذي انخرط فيه باراك أوباما ومزّقه ترامب لم يستطع بايدن استئنافه. الشيء الوحيد الذي تبدّل في الشرق الأوسط عقب وصول بايدن هو مجافاته للعربية السعودية في البدء، ومن ثم محاولته الإسراع صوبها لطلب زيادة إنتاج النفط بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا. زد على سحبه البساط بوضوح أكثر عن الحرب السعودية على الحوثيين في اليمن.
بالمحصلة، إدارة بايدن ليس عندها من تصور استراتيجي لمآل الأمور مع إيران، وهذا ما يميزها عن كل من إدارتي أوباما وترامب. فالأولى بحثت عن ملاقاة الجمهورية الإسلامية بشكل ثنائي، والثانية بحثت عن الخشونة معها (تمزيق الاتفاق واغتيال قاسم سليماني). أما إدارة بايدن ففي الما بَين بَين. وهذا يتصل بكامل علاقاتها مع أخصامها في المجال الأوراسي. تريد إدارة بايدن أن لا يتعمق التلاقي بين كل من روسيا والصين وإيران، سواء بشكل ثنائي أو مثالث. في الوقت نفسه، لا تريد الإدارة القيام بأي مجهود أو دفع أي ثمن لاستمالة أي من هذه البلدان الثلاثة طمعاً بعزل من تعتبره الأكثر خطرا في لحظة بعينها. النتيجة: ميل هذه البلدان إلى التقاطع فيما بينها يزيد دون أن يكون بالإمكان الذهاب بعيداً في تقدير قيام محور ثلاثي استراتيجي كامل موسكو – طهران – بكين. بمعنى ما، وفي البال هنري كسينجر الذي رحل مؤخراً، هذه الإدارة «أنتي كسينجرية» بشكل مطلق. كيسنجر جازف بسياسة أدت إلى رسم تقاطع أمريكي صيني في مواجهة السوفيات. حتى ترامب، كان يحاول هو الآخر أن يكبح التدهور في العلاقة مع فلاديمير بوتين، لإعطاء الأولوية للتهديف على الصين. أما إدارة بايدن، فهي، وان فرضت الحرب الروسية عليها، العداء لموسكو أولا، إلا أنها لاهية عن أي محاولة لاستمالة إيران أو الصين لإبعادهما عن موسكو. وهي اليوم إدارة لا تريد أن تخرج الأمور عن السيطرة في الشرق الأوسط إلى درجة الاصطدام مع إيران، لكن هذا الاحتمال ليس وهماً محض، وهو يزيد كلما طالت الحرب الإسرائيلية الحالية.
لقد شهدت هذه الحرب هدنة ويمكن أن تشهد هُدنا جديدة، مرتبطة بعمليات تبادل الرهائن مع الأسرى والسجناء. لكن هذه الهُدَن حتى ولو رسمت ايقاعاً أكثر تقطعاً للحرب، فهي لن تتكفل بإخمادها واحدة في إثر أخرى.
وأساساً هناك تقدير زائد بأن إسرائيل تعرف كي توقف، أو أقلّه، كيف «تُعلّق» هذه الحرب.
وهناك من يقيس التناقضات داخل إسرائيل على أنها ستدفعها حكماً لطلب تعليق الحرب. نفر يحتسب ذلك بافتراض أنّ إسرائيل حققت مبتغاها منها، يقابله نفر آخر ينتظر أن تخفت الحرب، إنما كنتيجة لإخفاق جيش الاحتلال فيها، وفشله في تحقيق أيّ هدف بعينه.
التناقضات المحتقنة في إسرائيل اليوم تقف كحواجز، لا كتسهيلات، أمام عملية تعليق الحرب أو حتى أمام خفض درجة احتدامها أو تقنين سعتها التدميرية. الحرب مستمرة لا لأنها استمرارية للسياسة بوسائل أخرى، بل لأن السياسة في إسرائيل تشهد عملية إعادة تأهيل عسيرة.
ليس قليلاً أن يكون رئيس الوزراء الذي يخوض هذه الحرب هو الذي انقسم المجتمع الإسرائيلي حوله بشدّة مطلع هذه العام، بين حراك احتجاجي للإطاحة به، من «على يساره»، وبين تطرّف مزاجي ومزايد على تطرّفه هو، «من على يمينه».
وليس عادياً أنّ بنيامين نتنياهو، الذي لم يزل حاقداً على آرييل شارون بدعوى أنه تحوّل حين عمد إلى الانسحاب الأحادي من غزة وإلى انشاء تكتل «كاديما» إلى حمامة سلام مرذولة، قد اتخذ بدوره موقعاً بين سلبيتين تجاهه. واحدة من المجتمع الأشكينازي العلماني «الأبيض» الذي يستشف في تجربة الليكود تحويلاً «عالمثالثياً» لإسرائيل، وثانية من المزيج الطرفي المتديّن – الشرقي – الروسي – المستوطن، الذي يريد استمرار نتنياهو في وجه كل من هم على يسار الليكود. إنما لا يشبع نتنياهو رغبات أي عنصر في هذا اللفيف المضطرب المساند له.
هذا قبل الحرب كان. فكيف عندما صار نتنياهو اسماً في وقت واحد للفشل السياسي والأمني يوم 7 أكتوبر، وعنواناً للثأر الحربي، الدموي، الاستئصالي، من خلال الحرب الحالية؟ ومن ثم صار نتنياهو عنواناً للموازنة بين الضغط عليه من موقع عائلات الرهائن، والضغط الذي يخدمه هو من موقع عائلات القتلى من الجيش؟ والأهم، نتنياهو هو عنوان لعدم إيقاف الحرب ليس فقط لأنه يريد الاستمرار في السلطة، أو التهرب من المحاسبة، بل أيضاً لأن واحدة من أهداف الحرب هي أن تطول. «الطول لذاته» إن صحّ القول. طولها بما يجعل أي حديث عن قيام دولة فلسطينية أمراً بمستطاع الجانب الإسرائيلي التنصل منه على نحو نافر ونهائي بعد الحرب، وبدعوى أنه لن يعود هناك من مقومات موضوعية بعد كل هذا التدمير لإقامة «دولة» بأي معنى أعطي للاصطلاح. ولا يبتعد عن هذا كون عدد ضحايا الحرب الحالية من الفلسطينيين في الأشهر الثلاثة هذه بات يزيد عن ثلث عدد الضحايا الفلسطينيين في مئة عام من الصراع مع إسرائيل والصهيونية، والرقم مرشح لبلوغ أكثر من نصف عدد مجمل ضحايا الصراع العربي الإسرائيلي في القريب!
في المقابل، إذا كان «طول الحرب» هدفاً إسرائيلياً بذاته، أكثر من كونه «استنزافياً لإسرائيل» كما يفكر كثيرون، فهذا الهدف متناقض حيوياً مع مصالح ليس فقط المجتمعات العربية، بل حتى عدد الأكبر من الأنظمة العربية. فبعض هذه الأنظمة ربما كان يفضل «نهاية من رعب» ضد حماس، بدلا من «رعب بلا نهاية»، لكن عندما يصير الرعب طويل الأمد على هذا النحو التدميري، فهذا يتناقض مع شبكة الحماية الذاتية عند هذه الأنظمة. لا يعني هذا أنها تمتلك القدرة، أو حتى العزم، عن الدفاع عن مصالحها هي.

