: آخر تحديث

البنية الفوقية للعقل الأمريكي

8
7
9
مواضيع ذات صلة

البنية الفوقية للعقل الأمريكي.. ترى العالم العربي من علياء غرورها مُجرد مشكلة صغيرة.. تتساءل اليوم كيف أصبحت هذه الصغيرة أكبر مشاكلها رغم مخططاتها التي سعت، منذ غادرنا الاستعمار الأوروبي، إلى ترسيخ استعمار جديد، ثقافي وحضاري، يمتد من أوروبا إلى العالم.

أمريكا التي كانت ذات يوم مستعمرة بريطانية، حكمت أوروبا كلها يوم قيّدتها بالديون المتراكمة بعد الحربين العالميتين، توسعت، وهي الدولة الحديثة، لتصبح من أكبر الدول.. زعيمة العالم التي توّجت نفسها عليه يوم حسمت الحرب العالمية الثانية بقنبلتين ذريتين على (هيروشيما)، و(ناكازاكي)، وبقيت في فوقيتها لا تحسب عدد الضحايا، بل تحسب مكاسبها.. والعالم غير القادر على سداد ديونه، بات تحت سيطرتها.

هي قصة الدولة العظمى التي ما إن جاء عام 1991 وانهار الاتحاد السوفييتي حتى استعدت لتكريس نفسها الزعيمة الأولى عالمياً، هي البلاد الجديدة التي ما كان أحد يعرفها قبل عام 1492، عندما اكتشفها الرحالة الإسباني (كريستوفر كولومبس). حيث كانت مأهولة بسكانها الأصليين الهنود الحمر الذين وقفوا مذهولين أمام هذا الهجوم من الهجرة المنظمة التي استولت على أرضهم، وأخضعتهم لسيطرتها.

من هنا، من احتلال وقمعٍ لأصحاب الأرض الأصليين، بدأت تتكون البنية الفوقية لهذا العقل الجديد. ورغم تمكّن بريطانيا عام 1664 من ضم أمريكا إلى مستعمراتها، استطاعت أمريكا الطموحة أن تحصل على استقلالها عام 1783.. ثم اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية التي استمرت خمسة أعوم، وسُجلت كأعنف نزاع مر على الولايات، وانتهت بانتخابات فاز فيها مقترح «الاتحاد». فكان (اتحاد الولايات الأمريكية) الذي كرّس البنية الفوقية لهذا العقل الذي يسعى لحكم العالم. ومع مرحلة القرن العشرين، بدأت مرحلتها الذهبية. كان اندلاع الحرب العالمية الأولى فرصة ووجدت فيها ضالّتها.. لم تدخل الحرب عسكرياً في البداية، أما اقتصادياً فكانت اللعبة التي أتقنتها.

فمنذ الأيام الأولى حرصت على تقديم الدعم المالي للبريطانيين والفرنسيين، ومنحتهم القروض التي اعُتبرت أكبر القروض في التاريخ. وفي عام 1916 اشترت بريطانيا معظم احتياجاتها من أمريكا التي كانت تجيد استغلال الموقف، بأن تقدم العون المادي، ثم تبيعهم منتجاتها لتزداد ثراء وتزداد الدول الأوروبية حاجة إليها. وهكذا كان العقل الأمريكي يؤسس بنيته الفوقية، يقدم العون باليمين، ويأخذه من المبيعات باليسار. فكان أن ازدهر الاقتصاد الأمريكي. ودمرت الحرب نصف العالم من دون أن تتأثر هي برصاصة واحدة.

وفي عام 1921 عُقد مؤتمر واشنطن البحري لنزع السلاح الذي ظهر فيه، للمرة الأولى، العقل الأمريكي بتعاليه وتفوقه، وقد أصبح نصف العالم مديناً له، وجلست أمريكا على عرشها.. (نقطة ارتكاز النظام العالمي المالي)، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عادت إلى السيناريو.. وبعد الحرب، خرجت أوروبا ضعيفة ومدمرة، وأمريكا المنتصرة تتباهى بقوتها، حتى كان انهيار الاتحاد السوفييتي، لتكرس نفسها القوة العظمى الوحيدة. وبات العقل الأمريكي يقود العالم، مالياً وعسكرياً واقتصادياً.

أمريكا القوية، هل كانت تنظر إلى العالم العربي إلا من خلال كونه مشكلة صغيرة بعد أن أسست فوقيتها على القارة العجوز؟ كيف كانت ترى العالم العربي الخارج من عباءة الحكم العثماني والاحتلال الأوروبي الباحث عن هويته العربية الضائعة؟ هل كان أكثر من مشكلة صغيرة سهلة التفكيك والخضوع؟

البنية الفوقية للعقل الأمريكي رسمت بإتقان تحتية البنية التي تريدها للعقل العربي، وبرعت وهي تلم حديد وأسلحة الاستعمار الأوروبي لتستبدل به حرير ثقافتها، وقيمها وحضارتها الثرية بالمال والتكنولوجيا، تبهر به أبصار العالم العربي، وهو في بداية انفتاحه على العلم، والمعرفة، والكتب، والتعليم. بدا الأمر سهلاً جداً لدرجة الاستخفاف به، وعدم محاولة فهمه، أو تقدير إمكاناته. كانت الدول العربية تبدو أمامها مجرد عيون وعقول طيّعة ليّنة، تتقبل بسهولة ما تقدمه لها. هكذا أسست إمبراطورية ثقافية وإعلامية وحضارية سيطرت فيها على العالم. ونشرت قيمها وحضارتها، وكرست كل وسائل الإعلام للترويج لمنتجاتها الاقتصادية والإعلامية، ولكن السؤال هل نجحت في اختراق العقل العربي؟

الجواب.. نجده في تخبط «قناة الحرة»، وقد فشلت أكثر من مرة وهي تحاول السيطرة على الجمهور العربي، إذ لا يُسجِل مُعدل المُشاهدة فيها إلا 3% من المشاهدات، وقد تزيد قليلاً في العراق، لكنها ورغم الأموال الطائلة التي ضخها الكونغرس، لا تتعدى مشاهدتها 12%، عدا عن الفشل الذي حققته إذاعة «سوا»، التي بدورها توقفت أكثر من مرة. ونجده في إعلان هيلاري كلنتون، في كتابها «خيارات صعبة»، حيث قالت: «محاولات التفرقة كلها.. فشلت». أما محاولات (جورج بوش)، و(كونداليزا رايس) في «وهم الربيع العربي»، فهي أيضاً فشلت. حتى مخططات تشويه العقيدة الدينية التي سخّرت الإعلام العالمي لها أيضاً فشلت. واليوم، تقف أمام العالم خائفة على نفوذها من الرياح الصفراء القادمة من التقدم التكنولوجي الصيني.. وتقف أمام مجازر غزة خائفة على سمعتها أمام تظاهرات العالم الذي تحرك ضد تحريضها على قتل الأبرياء، وأمام زيف وصمت المنظمات الحقوقية الموالية لها. اليوم تقف حائرة أمام تلك المشكلة الصغيرة التي كبرت، وتضخمت، وكشفت للعالم الوجه الحقيقي للعقل الفوقي، بتحتية بُنيته المَهزوزة، إنسانياً وأخلاقياً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد