: آخر تحديث

مراجعات في العلاقة ما بين الديني والمدني في الفكر العربي

37
33
33
مواضيع ذات صلة

في قراءتنا لفكرة العلمانية وتحولاتها وتفاعلاتها من الوجهة الفكرية والفلسفية، والتي تناولها المفكر المغربي الدكتور عبدالسلام الطويل في كتابه "إشكالية العلاقة ما بين الدين والسياسة في الفكر العربي المعاصر" في محاولة للوقوف على مواقف بعض المفكرين العرب تجاه الفكرة العلمانية.

فالدكتور محمد جابر الأنصاري بحكم تتبعه الدقيق لمسار تطور الفكرة العلمانية في الفكر العربي، يحاول أن يقربنا من تلك العلاقة بحكم وقوفه على المرحلة التي بلغت فيها العلمانية قوتها ونفوذها، قائلاً: "على امتداد الفترة الممتدة ما بين 1925 - 1930م، وهي الفترة التي بلغت فيها الفكرة العلمانية ذروتها قوة دفعها، فلو تأمل مؤرخ حال تلك الفترة لرجح أن المعركة بين القديم والجديد، أو الإسلام والحداثة، أو السلفية والعلمانية، لا بد أن تصل إلى نهايتها الحاسمة بانتصار أحدهما على الآخر، وإن كانت المؤشرات تدل على أن تيار التجديد كان هو   المؤهل للحسم التاريخي.

إلا أن العلمانية ما إن بلغت ذروتها وبدا أنها الأقرب للحسم تلاشت واندثرت وتهاوت، ذلك أن العلمانية التي نمت في ظل التجارب الوطنية لدول الاستقلال، والتي أمدت نظمها الديموقراطية الإصلاحية بمبرراتها وأيديولوجيتها لم تتحول إلى تيار اجتماعي فاعل على الرغم من اندفاعها كما كان ينتظر منها كحركة تحديثية، وكما كان ينتظر -بالمقابل- من الغرب الاستعماري في الوقت نفسه من أن يكون وفياً لمبادئه؟

وهذا الموقف ساهم في إبعاد التيار العلماني عن القطاعات الواسعة للمجتمعات العربية، خاصة بعد أن أمعن في تشتيت تراثها.

وهكذا ارتبط الاستعمار والتغريب عملياً في أذهان الناس، ولم يثبت أن العلمنة الجارية عملية اختيار جماعي حر، بحيث ما إن تراخت القبضة الاستعمارية حتى انقلبت الصورة تماماً، فإذا بالإسلام كقوة جامعة تتقدم، وإذا بالعلمانية تنحسر، وتبين أن التربة الاجتماعية العربية غير مستعدة لتقبل البذر التغريبي.

ومما كرس تراجع هذا التيار العلماني الأزمة العميقة التي طالت النموذج الغربي، الذي اهتزت معياريته وسلطته المرجعية بفعل الأزمة الاقتصادية الكبرى سنة 1929م، وهي الأزمة التي كشفت عن مدى الخلل العميق الذي اخترق النظام الرأسمالي.

ومن جانب آخر يذهب الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن شعار العلمانية قد طرح أول ما طرح في الوطن العربي في منتصف القرن التاسع عشر على يد مفكرین مسيحيين في سياق الدعوة إلى الاستقلال عن الترك، وهي الدعوة التي التف حولها تیار كامل جری نعته بتيار العروبة أو القومية العربية.

وقد لاحظ الدكتور محمد عابد الجابري أن شعار العلمانية لم يرفع قط في بلدان المغرب العربي ولا في بلدان الخليج العربي، بل ولا حتى في مصر نفسها حيث توجد أقلية قبطية مهمة، غير أنه طرح من جديد بعد استقلال الدولة العربية وبداية التنظير لفكرة القومية العربية، خاصة في الأقطار العربية التي توجد فيها أقليات دينية مسيحية بصفة خاصة، ليستنتج الدكتور الجابري أن الدلالة الحقيقية لشعار العلمانية في هذا الإطار الجديد كان مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بمشكلة حقوق الأقليات الدينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية، بما يفيد أن الدلالة السياسية والتاريخية لاستدعاء هذا المفهوم الشعار إنما جاء حفاظاً على حقوق الأقليات وليس بناء الدولة الحديثة.

ومع ذلك فقد اعتبر الجابري أن الاختيار العلماني في الوطن العربي حيث الإسلام لا يؤمن بالتعارض بين الدين والدولة، يعد اختياراً غير ذي موضوع، بل أكثر من ذلك يعتبره الدكتور الجابري اختياراً مزيفاً، فحقوق الأقليات حاجات موضوعية ولكنها تفقد معقوليتها وضرورتها وبل مشروعيتها عندما يعبر عنها بشعار العلمانية.

أما بالنسبة لأصل التناقض أو الصراع الذي قاد إلى نشوء العلمانية كنظرية داعمة لإرساء أسس الدولة الحديثة، فينفي أن يكمن في مجرد وجود الدين أو الكنيسة أو القيم الفكرية المستمدة من الدين، وإنما في تسلط الكنيسة والسلطة البابوية على شؤون الدولة والسياسة، وحرمانها المجتمع من تأكيد كينونته التاريخية المستقلة، أي من بناء الدولة باعتبارها الأداة الرئيسة للتراكم الحضاري والتاريخي العام.

غير أن هذه العلاقة المتوترة والعنيفة بين الدين والدولة في الغرب لم تكن قاعدة عامة في كل المجتمعات البشرية، وإنما كانت حالة خاصة بأوروبا القرون الوسطى، فقد كانت هذه العلاقة علاقة انسجام وتفاهم عام ودائم بين البوذية والكونفوشيوسية والدولة في آسيا، وبين الإسلام والدولة العربية والإسلامية، وهي كذلك اليوم بين المسيحية والدولة في أوروبا وأميركا، ذلك أن التعارض بين قيم الدين وقيم المجتمع لا يمكن أن يحصل إلا في حالات نادرة واستثنائية وظرفية؛ لأن الدولة سرعان ما تعود إلى الدين بصورة أو أخرى.

فما إن انقضت الثورة الفرنسية سنة 1798م حتى عاد الناس في أوروبا وفي غيرها من البلدان الأوروبية إلى إقامة توافقات واتفاقات في العلاقة بين الدين والدولة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد