حسن كاوز
رفعا لكل لبس، ولكل تفسير وتأويل أو تعليل، ولكل صوت موافق أو معارض أو متحفّظ، نقول إن كاريزما بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، ورئيس الحكومة السابق، ورئيس الحكومة المعفى من ولايته الحكومية الثانية، كانت، ومازالت تقريبا، قائمة في الواقع الملموس وفي الأذهان، وإن شخصية هذا الرجل، الذي سطع نجمه السياسي بفضل فراغات مشروع الربيع العربي، ظلت لسنوات، وما زالت بحدّة أقل في عهد حكومة العثماني الحالية، حديث الشوارع والمقاهي والمنتديات والمؤسسات، تارة بالإعجاب والتمجيد، وهذه هي الصفة التي كانت أساسا غالبة إبان إدارته للشأن العام الوطني، وتارة أخرى بالتقريع أو التشكيك، وخاصة من لدن خصومه السياسيين الذين أنكروا عليه الهبة الشعبية الربانية الممنوحة، وأحلّوا محلها الصناعة السياسوية الشعبوية المفبركة.
وفي الحقيقة فإن كاريزما السيد بنكيران، وهذه خاصية مغربية محلية شئنا أم أبينا، قد تجاوزت المفهوم التقليدي، وحتى العصري، للشخصية الكاريزماتية التي أطلقتها نظرية ماكس فيبر، وتحديدات مدارس سوسيولوجية وسيكولوجية وسياسية لاحقة، فلم يعد الحديث مقصورا على الوصفات السحرية للشخصية المحبوبة، ولا على صفات الثقة القوية في النفس، والصبر على ظلم وتقريع الخصوم، والقدرة في التواصل والتأثير، والتحكّم في مجريات الأمور وغيرها، وهي صفات تمنح صاحبها طبعا صك البراءة، وإخلاء الذمة، وكسب البطولة والزعامة، والسلطة المادية والروحية، بل صارت صفات أخرى مستحدثة تضخّ دماءها في جسد هذه الشخصية المثالية الطوباوية، من قبيل الأنانية المفرطة، والعدوانية، والصدامية، فاختلطت بالتالي هذه الصفات المتنافرة التي صنعت لنا في النهاية النسخة الأخيرة لشخصية بن كيران المركّبة، وتطلّب منا الأمر، على مستوى الشأن المغربي على الأقل، مراجعة مفاهيمنا العامة والخاصة حول تحديدات الشخصية الكاريزماتية النموذجية ؛ ذلك أن بنكيران هذا قد تعوّد، وما زال تقريبا حتى في عهد الحكومة الحالية لحزبه الحاكم، أن يفاجئنا في كل موسم تدبيري بصدمة كهربائية جديدة، فنقول له مع ذلك : اغرب عن وجهنا إننا نحبّك ؛ وكلنا يتذكّر تبعات قرارات، أو مشاريع قرارات، تطويق القدرة الشرائية للمواطنين، وتحرير أثمان المحروقات، وإصلاح أنظمة التقاعد، والقطع مع التوظيف العمومي المباشر، وإقرار نظام ريعي للتعيين في المناصب العليا، والاقتطاع الممنهج من الأجور إلخ، حيث إن هذه التدابير والإجراءات التي اتخذها بنكيران وحكومته السابقة عن طواعية وسبق إصرار، والتي كانت تحمل في جوهرها إصلاحا وطنيا مطلوبا، وهذا أمر لا يمكن نكرانه، لم يتحمّل فاتورتها في نهاية المطاف إلا المواطن البسيط الذي كان قد وعده دستور 2011 بالحياة، والكرامة، والصحة، والتعليم، والشغل، والسكن، والتضامن، والديمقراطية التشاركية، والرفاه، في حين أن الطبقات المالكة الغنية، والمنتفعين من مداخيل المؤسسات الإنتاجية، وذوي الأجور المرتفعة والتقاعد التفضيلي المريح، وأصحاب المقالع والصيد في أعالي البحار، والمتملّصين من أداء الضرائب وغيرهم ممن منعوا، بشكل مباشر أو غير مباشر، إقرار نظام الضريبة على الثروة، فقد سبق أن قال لجلّهم السيد بنكيران، رئيس الحكومة السابق، خلال فترة بحثه المضني عن تحقيق التوازن السياسي والاقتصادي والمؤسساتي المفقود، قولته الذائعة الصيت : عفا الله عما سلف ؛ ومع ذلك فقد استمر في حبّه، والتعلّق بوعوده، الكثير من الفقراء والمستضعفين من الطبقات المتوسطة، والصغرى، وما دون الصغرى التي لا تكاد ترى بالعين المجردة ؛ أي أن السيد بنكيران، حدث الموسم الانتخابي والحكومي بامتياز، على الأقل في الفترة ما بين 2011 و2016، استطاع أن يجمع بين النقيضين في شخصيته القيادية التي منحته المفهوم الجديد للكاريزما، والتي لم توهب له مجانا من الطرف الآخر عن اختيار وطواعية وتسليم، بل انتزعها بمحض إرادته وإصراره في الزعامة والتأثير، تارة باسم الدين، وهذا هو الوتر الحسّاس الذي يضعف عنده جلّ المغاربة المحافظين، وتارة باسم شعار "الإصلاح في ظل الاستقرار" الذي ضمّنه بذكاء وعيد الوضع الكارثي الذي تعرفه اليوم بلدان عربية مثل ليبيا وسوريا واليمن، التي عشقت الربيع العربي وما زالت لم تنله بعد.
إن السيد بنكيران هذا، وبهذه الخصوصية الكاريزماتية الاستثنائية، قد يثقل كاهلك بمتاعب إضافية، وقد يقتطع من أجرتك الشهرية، وقد يخفّض من نسب مستحقاتك وقدراتك المعيشية، وقد يحوّل مجتمعك إلى فئات اجتماعية معزولة وغير منسجمة : فئة معدومة تنال الدعم الرمزي العابر والأنشطة الصغيرة المدرة لدخل العيش والبقاء، وفئة تعمل لأجل إطالة عمر الدولة والمؤسسات والبنيات التحتية والفوقية، وفئة مدلّلة تقيم خارج الحدود في أغلب الأوقات، ومع ذلك، عندما يخيفك بنكيران هذا بفزّاعة العفاريت والتماسيح، وهي للإشارة قصة واقعية موجودة في كل بلدان العالم ويتم التأقلم مع حكاياتها، ترتعد فرائصك، وتقول بشبه استسلام وانهزام وانكسار أن سلامة الوطن أولى، وأن بركات الشيخ حتما قائمة. فهذه كاريزما بنكهة خاصة عليك أن تتقبّلها وألا ترفضها، لأنها، بمزيج النقيضين هذا، تختلط الأوراق السياسية والدينية والمذهبية، ويفسّر الشك في الغالب لفائدة "المتهم"، أي لفائدة صاحبنا بنكيران ؛ وعليك أيضا أن تقتنع بهذا المزيج السحري الذي يضمن البقاء لهذه الشخصية، حتى في عزّ الهزات السياسية والعلائقية المتتالية الآتية من جهة الخصوم والأقارب على السواء ؛ فبنكيران، في فترة من الفترات، كان كل شيء دون تحديد أو تصنيف أو تموقع، وهذا ما أعطاه جواز المرور، والتحالف السياسي مع اليمين والوسط واليسار من موقع قوة، بدون عقدة خوف أو شك أو ارتياب، أي أنه كان المحافظ والحداثي في نفس الآن، وكان صوت الموافق والمعارض والمتحفّظ حسب السياق والمكان والزمان، وكان رجل الساعة الشعبي والشعبوي، وكان الرجل المسامح، والمهادن، والإنفعالي، والصّدامي، والعدواني، والعفوي، والكريم، والمتديّن، والمتأفّف، والصبور، والأناني، والمزاجي، والمحافظ، والصارم، والفكاهي، والوطني، والسلفي، والمتعجرف، والمسالم، والودود، واليميني، والوسطي، واليساري، والليبرالي، والعاطفي، والعقلاني، والتنويري، والرجعي، والعنيد، وكان عنترة بن شداد، ودون كيشوط، وابن تيمية، وشيخ القبيلة... ؛ ولم يكن يجاريه في تيار هذه الكاريزما المختلطة إلا زعماء وممثلي أغلبيته الحزبية والحكومية السابقة، ولم يكن يقارعه لوحده إلا خصومه السياسيين من رموز المعارضة السابقة البئيسة، ولم يقدر على إعادة تأطيرهRecadrage وإعادة وضعه في السكّة الأسلم إلا بعض الناطقين الموسميين باسم القصر، أي أنه كان في حالة شرود كاريزماتي مطلق، يستند فقط على الشرعية الشعبية، وعلى صناديق الاقتراع، وعلى قوة الحزب الذي ينتمي إليه، وعلى انتظارية الشعب التي بلورتها حركة 20 فبراير والحركات الموازية ؛ ولم يهتز عرش هذه الكاريزما "الجوبتيريةJupiter "، وتتصدّع أرجاء بنايتها إلا في يومين استثنائيين لن تنساهما ذاكرة بنكيران السياسية : يوم الأربعاء 15 مارس 2017، تاريخ إعلان وفاته الحكومية بإعفائه ملكيا من رئاسة إدارة الفترة اللاحقة للحكومة الجديدة، ويوم الجمعة 17 مارس 2017، تاريخ إحلال الدكتور سعد الدين العثماني، الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية، مكانه، وتعيينه بدلا عنه رئيسا جديدا للحكومة اللاحقة.
وفي الواقع، لقد كان هذان التاريخان الكبيران بمثابة بداية العد العكسي لإعادة النظر في شرعية وصلاحية كاريزما بنكيران التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وكانا أيضا لحظة امتحان حقيقي لمعرفة صدقية هذه الكاريزما، ومدى صلابتها وتجذّرها في سلوك وردود أفعال صاحبها، وفي المحيطين بهالتها الوهمية أو الحقيقية. وإذا كان المقام هنا، والموضوع الذي نتناوله بالتحديد، غير معنيين بدراسة أحقية بنكيران من عدمها في بقائه على رأس الحكومة الجديدة آنذاك، وبما يكون يدور في الساحة الوطنية إبان فترة البلوكاج السياسي المعروفة، فإن الصمت الذي قابلت به شخصية بن كيران هذا الحدث الفريد في بداية تشكّله على الأقل، والسلاسة التي أعقبت نقل السلطة الحكومية إلى رئيس جديد وفق مبدأ التقية ربما، وقبول الأمانة العامة للحزب ومجلسه الوطني، على مضض، بهذا التحوّل السياسي الذي حمل معه دخول الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الدائرة الحكومية الجديدة، رغم المواقف المعارضة السابقة للسيد بنكيران وصقوره، جعل الرجل، وشخصيته الكاريزمية التي أصبحت شيئا ما مهزوزة، قبل وبعد رحلته المفاجئة إلى الديار المقدسة، في لحظة عودة خالصة إلى الله، وخلوة مع الذات، واسترجاع أوراق مبعثرة وذهن شارد، يستجمع أنفاسه، ويشدّ على قمقم غضبه، ويستوعب مضطرا، وبالتدرّج، الأحداث السياسية، وغير المعقولة أحيانا، التي تتوالى أمام عينيه. ومع تشكّل تركيبة الحكومة الجديدة التي طلع إلى سفينتها الاتحاد الاشتراكي، ومعه أيضا الاتحاد الدستوري، وقبل ذلك آلت رئاسة مجلس النواب، في رمشة عين، إلى حزب الوردة، وليس حزب المصباح، أو السنبلة، أو الحمامة، أو حتى الكتاب، كما كان بنكيران ورفاقه يمنّون النفس، لم يبق أمام هذا الأخير من خيار سوى العودة النضالية للمعترك السياسي من باب الأمانة العامة للحزب، وعينه تقريبا على الولاية الثالثة، خاصة بعد أن أجازت لجنة الأنظمة والمساطر، في انتظار مصادقة برلمان الحزب، تعديل الفصل 16 من القانون الداخلي للحزب، بما يسمح للأمين العام إمكانية تثليث مدة الولاية.
وفي الواقع، فإن هذا الحدث الأخير، إلى جانب الموقف الغامض من واجب مساندة حكومة العثماني، ودعوات النأي بالحزب عن المواجهة المحتملة مع القصر، خاصة بعد قراره إعفاء بنكيران، والسياق الدولي المتحوّل، وتجاذبات مفاهيم أحزاب المؤسسات وأحزاب الأشخاص، هو الذي وضع كاريزما بنكيران في المحك الأخير، بل هو الذي فجّر أوضاع الحزب من الداخل، حيث برزت للعيان سلسلة التقاطبات السياسية العنيفة التي توزّعت أساسا بين المناصرين والمعارضين للولاية الثالثة، أي بين ما صار يسمّى بقطب وزراء العثماني والجناح الدعوي للحزب، الرافض للتمديد، وأنصار ردّ الاعتبار لقيادة بنكيران السياسية والروحية. ولعل ما زاد في الطين بلّة هو طلوع الوجه النشاز للكاريزما السياسية لبنكيران الذي سعى، بوعي أو بغير وعي، إلى تضخيم أناه القيادية والمذهبية، حيث صارت الملتقيات الحزبية، وشبكات التواصل الاجتماعي، تنقل لنا بالواضح عمليات التراشق بين قيادات الحزب الواحد، وصرنا نتابع حلقات الحروب الصغيرة والكبيرة التي تدور رحاها بين كتيبة بنكيران وحامي الدين وماء العينين من موقع المهاجم، وفرقة الرميد والرباح وبوليف ويتيم وقيادات حركة التوحيد والإصلاح من موقع المدافع، وهي فعلا حروب مجانية أصبحت تنذر ببداية نهاية حزب كان في فترة من الفترات منظما، وملتحما، وقويا، وصعب التطويع أو الاختراق، خاصة وأن بنكيران اليوم، بعد تجريده من نيشان رئاسة الحكومة، والتردّد الواضح في إعادة تنصيبه الحزبي، قد اصطف ضمنيا في الجانب غير جانب حكومة العثماني، بما يشبه دور الجندي المهزوم الذي يستعجل لحظات الانتقام، أو على الأقل حفظ ماء الوجه وردّ بعض الاعتبار، بل شرع في الملتقيات الحزبية الأخيرة، ببعض التهور والمسّ بمبادئ القدوة والإيثار والترفّع، في نسب أهم المنجزات الانتخابية والحكومية السابقة إلى نفسه كرقم 1، وإلى بعض أنصاره المقرّبين، متّهما الآخرين بالتقاعس والخذلان والسفر إلى الحج في وقت الشدة ؛ وبذلك انفرط عقد الكاريزما التي ارتبطت عضويا بشخصية وحضور وهيبة بنكيران، وأصبح الحزب الأول في المغرب على فوهة بركان، بعد أن صار بنكيران لا يسمع إلا إلى نصف حزبه، وغدا النصف الآخر لا يرى في بنكيران إلا مجرد إنسان قد يصيب وقد يخطأ، ويقول بشبه حسم أن بركة المؤسسات أولى من بركة الأشخاص.