إيلاف من الصويرة: دعا مشاركون، في منتدى حقوق الإنسان بالصويرة في دورته ال12، ضمن فعاليات مهرجان "كناوةوموسيقى العالم" في دورته ال 26، إلى إعادة وضع الثقافة في صلب النقاش حول الهجرة.
وشدد المشاركون في هذا الموعد السنوي الذي تناول "الحركيات البشرية والديناميات الثقافية"، على أن الثقافة تأتي في بلدان المهجر كضرورة وجودية، لا ترفا، مادامت تعيد للغريب وجهه وروحه المفتقدة، كما تأتي لتلطف من مفعول الهجرة.
وانتقد المشاركون تحول الهجرة، في عالم متوتر يوجد على حافة الانفجار، إلى ملف أمني، يوظفه الشعبويون، بشكل تتحول معه حياة ملايين من المهاجرين إلى مجرد أرقام.
وتوقف المشاركون عند التحولات الحاصلة على مستوى الحركية البشرية، خصوصا في ظل ما يعرفه عالمنا المعولم اليوم، حيث أصبحت التدفقات البشرية أكثر تنوعًا من أي وقت مضى، مما أثر بشكل عميق على الهويات والتفاعلات الثقافية.
واتفق المشاركون على أن الحركية البشرية تعد محركًا أساسيًا لتطور المجتمعات؛ من منطلق أن الهجرات ساهمت على مر التاريخ في تشكيل الثقافات، وتحويل المجالات الاجتماعية والاقتصادية، وإحداث ديناميات ثقافية معقدة.
إسهامات ثقافية
شكل موضوع دورة هذه السنة من المنتدى فرصة لتوسيع النقاش، من خلال استكشاف الإسهامات الثقافية للهجرات والشتات، وليس فقط الاقتصادية، في بلدان الأصل والعبور والاستقبال؛ عبر استكشاف كيفية مساهمة تحركات السكان في الإثراء الثقافي، مع تسليط الضوء في الوقت نفسه على التحديات المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية والتماسك المجتمعي، بشكل يمكن، من خلال مراجعة أسباب وأشكال ونتائج الحركية البشرية، من فهم بعض الاتجاهات السائدة في الديناميات الثقافية المعاصرة بشكل أعمق.
انطلق المشاركون من أرضية أشارت إلى أنه كان هناك، في عام 2020، حوالي 281 مليون شخص يقيمون في بلد غير البلد الذي وُلدوا فيه، مقابل 153 مليون فقط في عام 1990؛ الشيء الذي يدل على أنه، على الرغم من السياسات التي تقيد الحدود والقيود المتزايدة على التنقل، مثل فرض التأشيرات، فإن الهجرات البشرية لم تكن يومًا بهذا الوضوح والأهمية.
وأظهرت هذه المعطيات والأرقام أن دوافع الهجرة تطورت بشكل طبيعي مع مرور العقود، لتشمل أسبابًا اقتصادية واجتماعية وسياسية ودينية ومناخية وغيرها؛ بل غالبًا ما تتداخل هذه العوامل، مما يجعل الظواهر المرتبطة بالهجرة أكثر خطورة وتعقيدًا في التحليل والفهم.
توظيف سياسي منحاز
انتقد المشاركون استمرار تحليل الحركية البشرية في الغالب من زاوية أمنية، مما يؤدي إلى توظيف سياسي منحاز في العديد من السياقات، الشيء الذي يقصي الإسهامات الإنسانية والغنى الثقافي للهجرة لصالح خطابات مبسطة كـ"الهجرة الانتقائية"، و"أزمة اللجوء" و"فشل الاندماج".
وتوقفت مداخلات عدد من المشاركين عند الدور المحوري الذي لعبته الهجرة والحركية البشرية في الخلق الثقافي، إذ بتغيير مكان الإقامة، يحمل الأفراد معهم تقاليدهم، ولغاتهم، ومعتقداتهم، وممارساتهم الفنية، الشيء الذي ينتج عنه ثراء ثقافي، لكنه يترافق باحتكاكات ورفض وتوترات، فيما تُستخدم التنوعات الدينية والثقافية كذريعة لرفض الآخر أو عرقلة إدماجه. ومع ذلك، تُثري الحركية البشرية الإرث الجماعي والوطني من خلال سرديات متنوعة، وتطرح في الآن ذاته تساؤلات جوهرية حول كيفية بناء مجتمع مشترك. ومهما يكن، فإن هذه التبادلات الثقافية يمكن أن تفرز أشكالًا ثقافية هجينة، تنتشر وتتداول ويُعاد استقبالها عبر العالم، لا سيما بفضل وسائل الاتصال الحديثة التي تساهم في تسريع حركة الأفكار والتأثيرات، مع إتاحة الوصول إلى الثقافات العالمية بشكل أكثر ديمقراطية.
أظهرت شهادات عدد من المبدعين والإعلاميين الممارسين في بلدان المهجر، الدور الذي تلعبه الثقافة كوسيلة للتعبير عن الذات وإثبات الهوية داخل المجتمع، خاصة في سياقات الاستقبال، مع استحضار أمثلة في ميادين الأدب، والسينما، والموسيقى، والمسرح، والفكاهة، وفنون الطبخ، والفنون التشكيلية، وغيرها؛ إذ في هذه البيئات الخصبة للتبادل والتنقل، يتبلور المزج الفني والثقافي، الذي، باعتباره نمطًا فنيًا عابرًا للأنواع، يتميز بقدرته على التفاعل مع الاختلافات وبسعيه الدائم لتجاوز الحدود الثقافية.
فسحة أمل
توزعت أشغال المنتدى أربع جلسات حوارية، مهدت لها كلمة افتتاحية لنائلة التازي، منتجة مهرجان "كناوة"، فضلا عن درس افتتاحي لادريس اليزمي، رئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج.

نائلة التازي
وتحدثت التازي عن المنتدى باعتباره فضاء لحرية التعبير، يسمح بالتفكير في الأحداث الحالية عبر العالم. وشددت على الوضع الصعب الذي يميز الحركية البشرية، خصوصا على مستوى عبور الحدود في ظل المشاكل التي تعيش على وقعها كل قارات العالم.
ورأت التازي أن الفن والثقافة يوفران فسحة أمل وسط كل ما يجري، مشددة على أنه لا يمكن لنا أن نصم آذاننا أمام الأحداث الجارية، وألا نرى المشاكل التي يعرفها العالم.
وقالت التازي إن الهجرات تشكل محركات أساسية للإبداع الثقافي، إذ "يأخذ الأفراد معهم تقاليدهم ولغاتهم ومعتقداتهم وممارساتهم الفنية عند تغييرهم مكان الإقامة والسكن". وأكدت أن هذه التبادلات الثقافية تولد أشكالا ثقافية هجينة تنتقل إلى كل أنحاء العالم، خاصة وأن وسائل الاتصال الحديثة اليوم تسرع من ديناميات تداول الأفكار والتأثيرات، مضيفة أن الثقافة أضحت اليوم متنفسا وممرا حيويا ونافذة أمل في عالم يزادا انغلاقا.
وقالت التازي إن الانغلاق على الهوية أصبح واقعا في عدة قارات، مشيرة إلى أن الخطاب حول الحركيات البشرية والهجرات "أضحى أكثر بؤسا من أي وقت مضى"، مقتصرا على منطق أمني أو اقتصادي بحت، مما يجعل من الضروري وضع الثقافة في صلب كل نقاش حول الهجرة.
وركز اليزمي في عرضه على قضايا الهجرة وتأثيرات العولمة، مستحضرا دوافع الهجرة، مشيرا إلى التوترات الجيوسياسية، وعدم المساواة في التنمية البشرية، والرغبة في تحسين ظروف العيش في بلدان الجنوب. كما تحدث عن مليار شخص في حركة تنقل عبر العالم، ما يجعل جميع البلدان تعيش هذه الديناميات الهجرية، مع وجود ثلثي المهاجرين في أوروبا وآسيا.
ورأى اليزمي أن الصورة النمطية للعامل المهاجر الذي ينتقل من الجنوب إلى الشمال لا تزال حاضرة، مشيرا إلى أن الهجرة أصبحت متعددة الأوجه، مستحضرا القاصرين والطلبة، فضلا عن أشكال أخرى مَثّل لها بكبار السن الذي يقصدون بلدانا كالمغرب، أو إشكالية "هجرة الأدمغة"، في علاقة بما بات يعرف بالهجرة "المختارة" أو "الانتقائية".

ادريس اليزمي
وشدد اليزمي على الحاجة إلى تدبير ملائم لمواجهة هذا التنوع المتزايد الذي يختبر سياسات الاستقبال، التي غالبا ما تكون موجهة لملفات نمطية، معتبرا أن "هذا التنوع ثروة تتطلب حكامة ملائمة".
وأشار اليزمي إلى أن الهجرة، في تنوعها، "تعكس أيضا تنوع العوالم التي ينبغي أن نتعايش فيها"، فيما "تدعو إلى إعادة التفكير في الهوية، والمواطنة، والعيش المشترك".
وطأة الهجرة
ركزت الجلسة الأولى حول "الحركية... طبيعة ثانية للإنسان"، على أسئلة "ما الذي يدفع البشر إلى التنقل في عام 2025؟"،و"الهروب من الحرب وعدم الاستقرار (أوكرانيا، سوريا، غزة)"، و"الهروب من التغير المناخي (الجفاف، الفيضانات، إلخ)"، و"السعي لأن يصبح الفرد مواطنًا عالميًا (كندا – الولايات المتحدة ببرامجها المفتوحة للجميع)" و"هل نحن متساوون أمام ظاهرة الهجرة؟".
وهدفت الجلسة، بمشاركة الباحث والمؤرخ الفرنسي باسكال بلانشار، وكريم بوعمران، رئيس بلدية سان-وان بفرنسا، وكاسي فريمان، من أفريكا ديلسبورا كونسوريوم (الولايات المتحدة) ، والكاتبة فيرونيك تادجو (كوت ديفوار – فرنسا) والأنثروبولوجي الإيطالي فرانشيسكو فاكسياني، إلى تحليل أشكال ودوافع الحركية البشرية في الوقت الحاضر. وأكدت المداخلات مفارقة أنه في الوقت الذي أصبح فيه العالم "قرية"، بات التنقل فيه أكثر صعوبة.
أما الجلسة الثانية، التي حملت عنوان "هل تخفف الثقافة من وطأة الهجرة؟"، فهدفت إلى اكتشاف وتحليل وسرد مسارات التعبير الفني التي تتناول قضايا الهجرة، من خلال أسئلة: كيف وُلدت هذه الأعمال، ولماذا تُعد مهمة؟ ما الأدوار التي أدتها أو لا تزال تؤديها لفهم أفضل لظاهرة الهجرة؟ وهل ساهمت في تعزيز الوعي، أو تغيير في النهج أو التصورات؟
وشهدت الجلسة مداخلات كل من المؤرخ الفرنسي نيكولا بانسيل، وريم نجمي، الصحافية والكاتبة المغربية المقيمة في ألمانيا، والمخرج المغربي كمال رضواني، والفنان الفرنسي – الكاميروني بارتيليمي توغو.
وانطلق المتدخلون في الجلسة الثالثة، تحت عنوان "الحركية... محرك للإبداع؟"، من معطى أن التنقلات البشرية، سواء أكانت بدوافع اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، تدخل تنوعًا غنيًا من التأثيرات الثقافية التي تُحفز الإبداع؛ وعند الاستقرار في سياق جديد، يُدمج المهاجرون عناصر من الثقافة المحلية مع الحفاظ على تراثهم. وغالبًا ما تُنتج هذه التفاعلات أشكالًا فنية هجينة تُعيد تشكيل ممارسات قائمة أو تُنتج أخرى جديدة. حركات مثل الجاز أو الراب، التي وُلدت من تداخل الموسيقى التقليدية الإفريقية مع السياقات الاجتماعية والسياسية الأميركية ، تمثل أمثلة ملموسة على كيفية تغذية الهجرة للعملية الإبداعية. ناقش هذا المحور مدى إسهامات الشتات كجسور ثقافية واقتصادية بين بلدان الاستقبال والإقامة.
وشهدت الجلسة مشاركة المخرج السينمائي المغربي - الفرنسي فوزي بنسعيدي، والكاتب المسرحي المغربي - الهولندي عبد القادر بنعلي، والكاتب والصحفي السنغالي إلغاز، وعالمة الاجتماع البلجيكية والباحثة في العلوم السياسية فاطمة زيبوه.
فيما تناولت الجلسة الرابعة "الهجرات والإبداعات الثقافية في المستقبل"، بمشاركة الشاعر المغربي – البلجيكي ومقدم البرامج التلفزيونية طه عدنان، والخبيرة في الهجرة وشبكات التوال الاجتماعي الفرنسية دانا ديمينيسكو، والمؤرخ الفرنسي إيفان غاستو، والمخرجي السينمائي الفلسطيني إيليا سليمان.
وأكدت مداخلات المشاركين في هذه الجلسة أن العالم من حولنا يتغير، تتزايد فيه الأزمات، والتوترات، والحروب والصراعات؛الشيء الذي دفع إلى طرح أسئلة من قبيل: "هل نحن بصدد ولادة نظام عالمي جديد؟" و"ما هي تأثيرات الذكاء الاصطناعي، والميتافيرس، والاتصال المفرط على رغبة البشر في التنقل، وعلى رغبتهم في الإبداع الجماعي؟"، و"هل يشكل الحكم المطلق للخوارزميات خطرًا على تنميط الإبداع؟"، و"هل ينبغي المقاومة؟"وإن كان الأمر كذلك، ما العمل؟".

جانب من جلسات منتدى حقوق الإنسان بالصويرة
لماذا أهاجر؟
لعله السؤال الذي انطلقت منه آراء ووجهات نظر المشاركين، على اختلاف منطلقاتهم، سواء تعلق الأمر بما يمس تجاربهم الشخصية أو تأملاتهم في الظاهرة كباحثين ودارسين.
وركز فرانشيسكو فاكسياني على مسألة الكرامة، التي تحرك سكان الجنوب بحثا آفاق لتحسين شروط العيش في بلدان الشمال.
وقالت ريم نجمي إن قرار الهجرة يحتاج إلى أكثر من الشجاعة، مشيرة إلى أن الكتابة حققت لها نوعا من التوازن في علاقة بذاتها وبالآخرين، إذ تأتي كضرورة وجودية، وليست ترفا، مادامت تعيد للغريب وجهه وروحه المفتقدة.
وبعد أن رأت الثقافة تأتي لتلطف من مفعول الهجرة، رأت أن هذه الأخيرة تحولت، في عالم متوتر يوجد على حافة الانفجار، إلى ملف أمني، يوظفه الشعبويون، تتحول معه قصص البشر إلى مجرد أرقام.
وحيث أن أغلب المتدخلين في جلسات المنتدى، هم إما مهاجرون أو ينحدرون من عائلات مهاجرة، أو منشغلون بقضاياها، فقد حرص الجميع على تفادي تغليب كفة "تجميل" حركية البشر، أخذا بعين الاعتبار الآلام التي ترافقها أو تتمخض عنها، مع تشديد عدد من المشاركين من أبناء المهاجرين على "عدم نسيان من أين جئنا".