: آخر تحديث
شخصية استثنائية برؤية ريادية.. اجتمع فيه ما تفرق في غيره

‎محمد بن عيسى الوزير المثقف الذي حول أصيلة المغربية إلى منارة كونية

3
2
3

إيلاف من الرباط: أقل ما يمكن أن يقال عن محمد بن عيسى، الوزير والدبلوماسي والمثقف المغربي، أنه شخصية استثنائية برؤية ريادية، اجتمع فيه ما تفرق في غيره.
منذ السنوات الأولى لتحصيله الدراسي، في أصيلة، حيث ولد سنة 1937، تميز بن عيسى بالطموح والشغف والإصرار على إثبات الذات، مع إيمانه بأن أي إنسان هو وليد زمانه وظروفه وقدراته الشخصية.



على مدى أكثر من ستة عقود، تقلب خلالها في مهام ومسؤوليات عديدة، وراكم خبرات وتجارب داخل وخارج بلده، كما ارتبط اسمه بموسم أصيلة الثقافي الدولي، حيث أكد بن عيسى قدرة الثقافة على أن تحدث تغييرا نحو الأفضل في حياة الناس؛ لذلك ظل متشبثا بتوظيف الفعل الثقافي والفني في مجال التنمية، وتحفيز الإنسان ليوظف إبداعه وتخيله من أجل تغيير نفسه؛ مع إيمان بأن الإنسان لا يمكن أن يغير من نفسه ومن ظروفه إذا لم يكن له استعداد ورغبة لفعل ذلك.



بقدر ما منح لمدينة أصيلة شهرة كبيرة وتحولا تنمويا إيجابيا، بعد طول إهمال وتهميش، برز بن عيسى فاعلا ومسؤولا في الحقل الثقافي، كوزير للثقافة، ومسؤولا سياسيا ودبلوماسيا محنكا، بعد أن عمل سفيرا لبلاده في واشنطن ثم وزيرا للشؤون الخارجية والتعاون.
بدأ بن عيسى تحصيله العلمي من الكُتاب، إسوة بأبناء جيله، ثم التحق بالمدرسة التي كانت تقترح برنامجها الدراسي باللغتين العربية والإسبانية، حيث أن أصيلة كانت، وقتها، تحت الحماية الإسبانية.
يستحضر بن عيسى طفولته في أصيلة - المدينة الشاطئية التي تمنح أبناءها شاعرية، بحكم زرقة البحر وضوء الشمس - مشيرا إلى أنه عاش طفولة مريحة وتربى تربية صوفية، وسط جو عائلي مفعم بالصدق والبراءة.
لاحقا، في 1952، سينتقل بن عيسى إلى فاس لمتابعة دراسته الثانوية، قبل أن ينتقل إلى العرائش وبعدها إلى تطوان. وخلال هذه المرحلة من عمره، كان عاشقا لفن التمثيل، وأدى أدوارا مسرحية، ضمن فرق في مسارح العرائش وطنجة، وغيرها.
سيسافر بن عيسى إلى مصر لاستكمال دراسته، لكنه سيضطر إلى العودة إلى بلاده بعد العدوان الثلاثي؛ ليلج ميدان الصحافة، مذيعا بإذاعة صوت أفريقيا في طنجة، وسيقوم سنة 1957 بتغطية أول زيارة يقوم بها الملك محمد الخامس لشمال المغرب ، بعد استقلال البلد.
سيعود بن عيسى إلى مصر لاستكمال دراسة الصحافة بجامعة القاهرة، بين 1960 و1961، قبل أن ينتقل إلى جامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة ، حيث سينال الإجازة في علوم الاتصال سنة 1963، كما سيحصل على منحة من مؤسسة روكفلر للقيام بأبحاث في مجال الاتصال بجامعة كولومبيا بنيويورك سنة 1964.



في الولايات المتحدة، سيبدأ بن عيسى حياة أخرى، في عالم جديد بثقافة مختلفة. وبعد صبر ومثابرة وتميز في التحصيل العلمي، سيعمل، ما بين 1963 و1965، ملحقا إعلاميا بالبعثة الدائمة للمملكة المغربية لدى الأمم المتحدة، في نيويورك؛ وبين 1965 و1967، عمل ملحقا إعلاميا بدائرة الإعلام للأمم المتحدة في نيويورك وباللجنة الاقتصادية لإفريقيا بأديس أبابا في إثيوبيا؛ قبل أن يعمل، ما بين 1967 و1971، مستشارا إقليميا في الإعلام لدى منظمة الأغذية والزراعة (فاو) في القارة الإفريقية، بمقر مكتبها الإقليمي، في العاصمة الغانية أكرا.
يذكر بن عيسى هذه الفترة من حياته بكثير من الإيجابية، ويقول عنها إنها كانت مفيدة، لأنها عرفته على ثقافات جديدة، وقربته من عوالم إفريقيا جنوب الصحراء. هناك، ستعزز تجارب بن عيسى ومشاهداته لبلدان تلك المنطقة من العالم ، وسيتزايد إيمانه بضرورة تحقيق التنمية المحلية والتفاني في خدمة الشأن العام، الشيء الذي سيمثل له، إلى جانب إيمانه بقيمة ودور الثقافة، دافعا ومحركا للعمل والعطاء طوال حياته.
بين 1971 و1974، سينتقل بن عيسى إلى روما للعمل كرئيس لقسم الاتصال بالمقر المركزي لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو)؛ ثم مديرا لدائرة الإعلام بها ما بين 1974 و1976، قبل أن يعين أمينا عاما مساعدا لمؤتمر الغذاء العالمي للأمم سنة 1975.
وخلال هذه المرحلة من حياته، بين الولايات المتحدة  وإفريقيا جنوب الصحراء وروما، سيبني بن عيسى شبكة علاقات مهمة وسيكون صداقات كبيرة مع عدد من الشخصيات المغربية والأجنبية، التي سترتبط مساراتها المهنية بعدد من الأحداث المفصلية التي سيعرفها العالم.
حين عودته إلى المغرب سنة 1976، سيصدم بن عيسى بالواقع الكارثي الذي وجد عليه مسقط مدينة أصيلة التي "كانت حالتها سيئة، وكانت تحتاج إلى كل شيء"، ليقرر مع رفيق دربه، الفنان التشكيلي محمد المليحي (1936 - 2020)، أن يخوض غمار الانتخابات البلدية، لينتخب مستشارا في المجلس البلدي لأصيلة، وذلك إلى غاية 1983، كما انتخب نائبا بمجلس النواب المغربي في 1977، حيث عمل مقررا للجنة الثقافة والإعلام بذات المجلس حتى سنة 1984.

في منتصف السبعينيات، كان هناك مغرب آخر قيد التشكل، أدخل المملكة في عهد جديد، خصوصا بعد حدث المسيرة الخضراء. وفي هذا السياق، ستكون 1978 سنة فارقة في تاريخ أصيلة والفعل الثقافي في المغرب؛ حيث سيساهم بن عيسى في إطلاق "جمعية المحيط" الثقافية، التي تحولت إلى "مؤسسة منتدى أصيلة"، والتي كانت وراء إطلاق موسم أصيلة الثقافي الدولي، كتظاهرة غير ربحية مكرسة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال التبادل الثقافي، كانت غير مسبوقة في المجال الثقافي غير الحكومي في المغرب.
سيكتسب الموسم، بفعل توالي دوراته، مصداقية متجددة، فصار موعداً ثقافياً دولياً بامتياز، تقصده النخب السياسية والثقافية المغربية والأجنبية، خصوصاً من دول الجنوب والمنطقة العربية، فتحول إلى منارة، وأضحى من الواحات الفكرية القليلة في العالم وعالم الجنوب التي يجري فيها نقاش خصب بين الفاعلين ومنتجي الأفكار بخصوص قضايا وإشكاليات لها اتصال بصميم الراهن الثقافي والسياسي والمعيشي العام.
لم يكن من السهل على موسم أصيلة أن يصمد وأن يؤكد قيمته، في سياق وطني ودولي صعب، يعيش على إيقاع الحرب الباردة والتجاذبات السياسية التي أفرزتها؛ غير أن بن عيسى ومن معه، استطاعوا أن يكسبوا الاحترام، مسنودين بدعم الملك الراحل الحسن الثاني وولي عهده، الملك الحالي محمد السادس، والاقتناع المتزايد بين المثقفين بأن هذا الموعد الثقافي السنوي "لم يكن ضد أحد"، و"يهدف إلى توفير التنمية عبر الثقافة".
هكذا،"بدأت أصيلة موسمها بنفَس طويل"، كما يقول بن عيسى؛ حيث سيستضيف موسمها قامات فكرية وأدبية وسياسية من مختلف بقاع العالم، راكم بها سمعة طيبة تخطت حدود المغرب، لتجعل من المدينة المغربية الصغيرة "هايد بارك" عربية، تماما كما رغب في ذلك الملك الحسن الثاني.
وانسجاما مع إيمانه بارتباط تغيير الإنسان لظروفه بمدى استعداده ورغبته في ذلك، سيتقلد بن عيسى ما بين 1983 و1992، مسؤولية رئاسة المجلس البلدي لمدينة أصيلة، كما سيعاد انتخابه نائبا برلمانيا ما بين 1984 و1992.
وتأكيدا لمضمون الآية الكريمة، التي تقول "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، سيعين بن عيسى وزيرا للثقافة ما بين 1985 و1992؛ كما سيعاد انتخابه للمرة الرابعة رئيسا للمجلس البلدي لأصيلة للفترة ما بين 1993 و2008. وفي 1993، سيعين سفيرا للمغرب لدى الولايات المتحدة إلى غاية 1999، وهي السنة التي سيعين فيها وزيرا للشؤون الخارجية والتعاون، وهو المنصب الذي تحمل مسؤوليته إلى سنة 2007.
يرى بن عيسى أن الجمع بين الثقافة والسياسة ليس شيئا سيئا؛ ويمثل لذلك بتجارب كثيرة عبر العالم. هو يقول إن المثقفين حين يزاولون السياسة يفعلون ذلك بنوع من الترفع الفكري والخيال والإبداع وليس "السياسة السياسوية" التي تروم الوصول إلى منصب أو إدراك مكانة؛ مادام أنهم يمارسون السياسة كجزء من العمل الثقافي.
يفتخر بن عيسى كثيرا بالفترة التي عمل فيها وزيرا لخارجية بلده، ويشدد على أن المغرب، تحت قيادة الملك محمد السادس، بقي متمسكا بأن تكون له سيادته الكاملة، فاصلا في قضاياه كما يراها، بحيث "لا يكون ضيعة لأحد"، لذلك كسب احترام كل الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة.
لا ينسى بن عيسى أن يستحضر أبرز الملفات والقضايا التي اشتغل عليها، وضمنها العلاقات مع الجزائر، مستحضرا، في هذا الصدد، زياراته إلى الجارة الشرقية للمغرب، والتي بلغ عددها 11، اجتمع خلالها مع الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة 10 مرات، على مدى 8 سنوات؛ ويقول إنه اكتشف أن الخلاف بين المغرب والجزائر لم يكن سهلا، لأن "بوتفليقة لم يكن رئيسا على كل شيء".
يشير بن عيسى إلى أن الأهم، كان انفتاح الملك محمد السادس على الجنوب، وعلى التقارب والتعاون الإفريقي – الإفريقي. وفي نفس الوقت، كانت العلاقات مع الغرب تأخذ مسارها وفق الظرفية، مع الحرص على الدفاع، أولا وقبل كل شيء، على مصالح المغرب والشعب المغربي، من دون  مساومات سياسية مع أي كان.



على المستوى الحزبي، يعد بن عيسى عضوا مؤسسا لحزب التجمع الوطني للأحرار سنة 1978، وانتخب عضوا للجنته التنفيذية سنة 1984، كما تحمل مسؤولية إدارة ورئاسة تحرير جريدتيه، "الميثاق الوطني " و"المغرب" الناطقة باللغة الفرنسية، بين 1985 و1998؛ فيما سيتم تعيينه، سنة 2003، عضوا في المكتب التنفيذي للحزب ؛ وسيعاد انتخابه في 2009 ثم في 2015، رئيسا لمجلس بلدية أصيلة، قبل أن يعاد انتخابه في 2021 رئيسا لذات المجلس، وعضوا في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان) لكن هذه تحت يافطة حزب الأصالة والمعاصرة ، وذلك لاسباب عدة ليس هنا المجال لذكرها خاصة اسباب انسحابه من حزب التجمع الوطني للأحرار الذي كان أحد  مؤسسيه الاساسيين.

وفضلا عن ذلك، فإن بن عيسى هو أمين عام لمؤسسة منتدى أصيلة؛ كما أنه مستشار دولي في قضايا الاتصال والتنمية، وعضو بجائزة عيسى لخدمة الإنسانية (البحرين)، وعضو بمجلس الأمناء لمركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة "دراسات"، وبمجلس الأمناء لمنتدى الفكر العربي في عمان بالأردن.

على مستوى الإسهامات العلمية والمهام الاجتماعية والسياسية، أصدر بن عيسى سنة 1976 كتابا مشتركا مع الشاعر والروائي المغربي الطاهر بن جلون، تحت عنوان "مسامات". وتأكيدا لقيمته ومنجزه في الحقل الثقافي، فاز بن عيسى سنة 1998 بجائزة الأغا خان للعمارة الإسلامية تقديرا لإعادته تأهيل أصيلة، المدينة التي نقلها، بجهوده الدؤوبة وتفانيه وإخلاصه العميق، من قرية صيد منسية وهادئة لتصبح بلدة مزدهرة ومعروفة في جميع أنحاء العالم كنموذج للتنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال الفن والثقافة. كما حصل، في 2003، على جائزة رجل السنة الثقافية من مؤسسة الفكر العربي، ببيروت، وعلى جائزة الشيخ زايد للكتاب رجل السنة الثقافية برسم 2008؛ وهو عضو مؤسس والنائب الثاني لرئيس مجلس إدارة العلاقات العربية والدولية بالكويت (2009).



كما حصل بن عيسى في عام2007 على الدكتوراه الفخرية، شعبة القانون، من جامعة مينيسوتا؛ وسنة 2011، على جائزة ملتقى الأقصر الدولي للفن التشكيلي، وجائزة شخصية العام الثقافية بمعرض الشارقة الدولي للكتاب. كما حصل، في نفس السنة، على عضوية مجلس مركز اكسفورد للدراسات الإسلامية. وفي 2012، حصل على عضوية المجلس الاستشاري لمركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة خلال الدور  67 للجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان هذا المجلس مسؤولاً عن إعداد مشروع التقرير عن الأهداف الإنمائية للألفية، ولا سيما التنمية المستدامة. كما حصل في 2014، على عضوية اللجنة العليا لملتقى القلم العربي – أبو ظبي (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية).

وبن عيسى أيضاً هو  عضو مؤسس لمركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة ببلغراد بصربيا (2015)، وعضو مجلس ادارة منتدى وزراء أسبن الذي أسسته وزيرة خارجية اميركا السابقة  مادلين أولبرايت (2018). وفي 2022، اصبح  عضوا في مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية بمصر. وهي نفس السنة التي سيحصل فيها على جائزة الإنجاز في مجال ديبلوماسية حل الصراعات، والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تقدمها مؤسسة كميت بطرس بطرس غالي للسلام والمعرفة بمصر.

وتقديرا لمسيرته وإنجازاته وإسهاماته، في أكثر من مجال، حصل بن عيسى على عدد من الأوسمة الرفيعة، بينها وسام ضابط العرش من الملك الحسن الثاني سنة 1993، ووسام كومندار العرش من الملك محمد السادس سنة 2002، ووسام كبير كومندار العرش من الملك محمد السادس سنة 2008. كما أنه حامل لأوسمة من عدد من الدول، بينها الدنمارك، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والمكسيك والبيرو، والشيلي، الأرجنتين، البرازيل، اليابان، والهند وماليزيا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في أخبار