قررت الدبلوماسية الروسية أن الوقت ملائم لإحياء اهتمامها بليبيا ولإعادة التفكير بكيفية دفع اللواء المتقاعد خليفة حفتر نحو بسط سيطرته على كامل البلاد. موسكو عادت إلى الدعم العلني للجنرال حفتر أثناء استقباله الثلثاء الماضي لأيام عدة، وإجراء لقاءات مكثفة بعد أسابيع قليلة لزيارة نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف لبنغازي. بالموازاة، برز دور متزايد للبنتاغون في ليبيا وتفاعله مع خليفة حفتر "حيث تأخذ الولايات المتحدة دوراً أكبر في الشأن الليبي وتبدو وتيرة التعاون بينها وبين حفتر في تصاعد"، بحسب تقرير لمجلة "أنترست" أشار إلى لقاء بين قائد القيادة المركزية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" الجنرال مايكل لانغلي وحفتر الأسبوع الماضي. الاهتمام الأميركي والروسي بحفتر ليس بالوتيرة نفسها، لأن الإدارة الأميركية منشغلة بأولويات أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما روسيا فإنها، في أعقاب الانقلاب العسكري في النيجر، ترى أن أمامها فرصة مميزة لاستئناف حيويتها السياسية بالذات في القارة الأفريقية. وهذا أمر مهم وسط اندلاع الغضب الأفريقي من الدول الغربية.
للتأكيد، الأولوية الروسية تبقى للصين ولتمتين العلاقة بين البلدين في وجه الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. الدبلوماسية الروسية منشغلة بالتهيئة للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الصيني شي جينبينغ أثناء زيارة بكين بين 26 و29 من شهر أكتوبر الجاري. فالرجلان لم يلتقيا في قمم كانت ستجمعهما معاً، وهذه الزيارة فائقة الأهمية لأن الرئيسين سيبحثان في العلاقات الثنائية وسط تكامل لمواقفهما إزاء كوريا الشمالية وتباينٍ في كيفية تناول ملف الحرب والسلام في أوكرانيا.
الصين لا تعترف بالأراضي التي ضمتها روسيا في أوكرانيا، وهي تريد من روسيا وأوكرانيا أن تثبتا استعدادهما لليونة وذلك بسحب كل منهما شروطه المسبقة للدخول في مباحثات نحو إنهاء النزاع. ما تريده الصين هو "صفحة بيضاء" تستطيع بناءً عليها أن تلعب دور الوسيط التقني وليس الوسيط السياسي بين روسيا وأوكرانيا. روسيا، الحليف للصين، ليست جاهزة لسحب شروطها، وكذلك أوكرانيا. وهذا سيترك بصماته على القمة الثنائية الفائقة الأهمية لفلاديمير بوتين الذي يريد أن يفهم تماماً آفاق الشراكة الصينية- الروسية. فنظيره الصيني يرى أن إطالة الحرب الأوكرانية ستكون مضرّة جداً لروسيا وستفاقم جهود الولايات المتحدة لبناء تكتلات معادية للصين وليس فقط لروسيا، مثل الثلاثي الأميركي - الياباني - الكوري الجنوبي، كما على نسق مضاعفة الاتصالات والتنسيق بين حلف الناتو واليابان.
الرئيس الروسي يقع بين المطرقة والسندان، بين مؤسسته العسكرية وإصرارها على الانتصار الحاسم في الحرب الأوكرانية بكل ما يتطلبه الانتصار، وشراكته الاستراتيجية الحيوية له ولروسيا، لا سيما أن الصين تسعى إلى أن تقدم لروسيا مخرجاً وصفقة تتطلب الليونة والصبر والتفاوض المرير والطويل.
أحداث النيجر ونجاح الانقلابيين في دبّ الرعب في الغرب بدوله الأوروبية وبالولايات المتحدة وبالدول الأفريقية عامة، هذه الأحداث دفعت بروسيا إلى إعادة التفكير بأدوارها في أفريقيا وبالفرصة المؤاتية لكسر طوق استبعاد روسيا عن صنع القرارات الدولية. النيجر ألهمت روسيا لجهة تناولها ملف ليبيا. وهذا أمر لافت لأسباب عدة.
استقبال الرئيس بوتين للواء حفتر في لقاء علني بحضور وزير الدفاع الجنرال سيرغي شويغو له دلالات مهمّة، أبرزها أن روسيا قررت الانخراط في ملف ليبيا لإثبات جدارة دورها الفاعل في تحويل مسار الدول الأفريقية لتوجيه رسالة إلى الغرب بأن عزل روسيا ليس سوى في المخيّلة الغربية.
بوتين يريد تغيير مستقبل أفريقيا لأنه قرأ في المزاج الأفريقي أن الكيل طفح من الأداء الغربي في القارة الغنية بالموارد الطبيعية. أفريقيا قد تكون لبوتين وسيلة لإنقاذه من مخالب الغرب وحلف الناتو في الحرب الأوكرانية، اقتصادياً وسياسياً، كما قد تكون أداة تزداد حدّة مع ازدياد خيبة الأمل الأفريقية بالغرب. روسيا تريد أن تراهن على أفريقيا، وبوتين يسعى للاستفادة من الغضب الأفريقي من الغرب. ليبيا تبدو له ساحة مؤاتية لاستراتيجيته الجديدة. لماذا؟
لأن الرئيس الروسي ومؤسسته الحاكمة على ثقة بأن تركيا لن تمانع، والدول العربية المعنية بملف ليبيا والتي أمرها مهم لدى موسكو لن تمانع. قراءة الروس للخريطة الدولية المعقدة في ليبيا تفيد بأن أوروبا لن تتدخل في سياسة الدعم الروسي للجنرال خليفة حفتر، لأنها تريد ما من شأنه أن يحول دون هجرة كبرى من السواحل الليبية إلى القارة الأوروبية. فليتحالف الشيطان مع الشيطان، ما دام ذلك يؤدّي إلى ضبط الهجرة التي تُرعِب الدول والقيادات الأوروبية بها، ولها الأولوية.
أما الولايات المتحدة فإنها، بحسب القراءة الروسية، لن تضع ثقلها في ليبيا لأن لدى الرأي العام الأميركي حساسية ضد ليبيا بسبب الإخفاقات الأميركية في ليبيا، وليس فقط نتيجة انعدام الثقة والاحترام لأداء السلطات الليبية المتعاقبة. وبالتالي، يرى الكرملين أن إدارة بايدن لن تعارض في العمق تولّي روسيا دعم خليفة حفتر زمام الأمور، وأنها ستغض النظر عن أدوات روسيا لدعم حفتر ما دام ذلك يؤدّي إلى ضبط الأمور في ليبيا.
هذا يفسر، جزئياً، اجتماع القيادات العسكرية الأميركية بخليفة حفتر كي لا يفلت كلياً من المعادلة الجيو-سياسية ويظن أن عليه وضع كل البيض في السلّة الروسية. فإدارة بايدن قد تغض النظر عن الاستثمار الروسي في ليبيا، لكنها لن تكون نائمة في الملف الليبي، ولن تقدم القارة الأفريقية إلى روسيا، ولن تساعد بوتين في استخدام أفريقيا لمصلحته.
دبلوماسية الكرملين تتجاهل في هذا المنعطف مشاعر البيت الأبيض وتمنياته. إنها تنصبّ على الأخذ في الاعتبار مواقف الدول الإقليمية ومن بين أهمها في الملف الليبي تركيا. المصادر الروسية قالت إن اجتماعاً بين الرئيس الروسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان يُعدّ لعقده خلال "الأسابيع المقبلة". بالطبع، إن تطورات ناغورني كاراباخ ستكون موضع اهتمام مميز للرئيسين، علماً أن أردوغان يعتبر أن أذربيجان انتصرت وهذا يسعده. ولا بد أن يكون موضوع سوريا حاضراً في اللقاء. لكن ليبيا ستكون في صميم المحادثات، قالت المصادر التي توقعت أن ينعقد اللقاء قبل توجه بوتين إلى الصين في الأسبوع الثالث من أكتوبر. وأكدت هذه المصادر تقويم الدبلوماسية الروسية لما تريد أن تقوم به روسيا بأنه يدخل في خانة "لا مانع".
ماذا تريد روسيا من حفتر؟ تريد منه أن يتحلى بالنشاط وبالقوة اللازمة لبسط سلطته على كامل البلاد، وليس على مجرد جزء من البلاد، ومجموعة فاغنر قادرة على المساعدة الحيوية. فعودة روسيا إلى ليبيا مهمة للكرملين لأنها حجر مهم في سياستها الأفريقية يضاف إلى الحجر الأساس الذي وضعته التطورات في النيجر.
يبقى أن الآفاق التي فتحتها تطورات الانقلاب في النيجر حرّكت ليس فقط رغبة روسيا بملء الفراغ الذي تتركه فرنسا والغرب نتيجة الإصرار الأفريقي في دول عدة على الطلاق مع الغرب. فهناك دول عدة في الشرق الأوسط، عربية وغير عربية، تتجهّز لرسم سياسات نحو أفريقيا في ظل غياب الغرب عن القارة. الأسباب اقتصادية بالطبع نظراً للفرص المتاحة للاستثمار في هذه الدول الغنية بالموارد الطبيعية. لكن المال ليس وحده المحرّك وراء الاندفاع العربي مثلاً نحو أفريقيا، بل إن المعطيات الجيو-سياسية لها القدر نفسه من الأهمية.
أفريقيا تمر في مرحلة فائقة الأهمية، بل إنها في منعطف تاريخي، والجميع مهتم بها، كلٌ من زاوية مصالحه واستغلالاً للفرص المؤاتية. سنرى إن كانت قيادات الدول الأفريقية ستساهم في صنع مستقبل زاهر لنفسها، أو أنها ستسقط في دوامة النرجسية والاحتفاء بانقلابات عسكرية ليست أبداً الطريق الصحيح إلى الازدهار والديموقراطية.