حالة السجال الحاد التي تعيشها تونس حاليا بين مؤيدي مسودة الدستور الجديد ومعارضيها، لن تفرز في النهاية سوى التصويت يوم الخامس والعشرين من يوليو الجاري لفائدة المشروع الذي يدعو إليه الرئيس قيس سعيد. كل ما قيل ويقال عن دسترة سلطة الفرد ونذر دكتاتورية ناشئة لن يغيّر طبيعة الواقع التي تشير إلى أن شعبية الرئيس التونسي لا تزال في أوجها، وهو اليوم محفوف بنسبة مهمة من أبناء شعبه ترى فيه القائد والزعيم والمنقذ وتصفه بالشجاعة والحكمة ونظافة اليد.
قد يرى البعض أن ما يميز المشهد التونسي الحالي هو استقالة مواطنيه عامة من السياسة، بحيث لا المعارضة ولا الموالاة تستطيع تحريك الشارع أو الإعلان عن موقف شعبي جدّي وذي مصداقية يمكن الاعتماد عليه في تحديد خصوصيات المرحلة، وعندما دعا الرئيس إلى استشارة شعبية إلكترونية في بدايات العام الجاري لم يتجاوز عدد المشاركين نصف مليون مشارك إلا ببعض آلاف من بين 12 مليون نسمة، قال 36 في المئة فقط منهم إنهم يدعمون فكرة إعداد دستور جديد، ومع ذلك نجد أنفسنا اليوم أمام مسودة دستور الجمهورية الجديدة كما حبّرها الرئيس بنفسه بالتأكيد في التوطئة على مرجعية تلك الاستشارة، وسنقف بعد ثلاثة أسابيع على أن التونسيين يساندون الدستور مهما كان عدد المتقدمين للإدلاء بأصواتهم.
لا يمكن اتهام الرئيس سعيد بتزوير النتائج لأنه لا يحتاج إلى ذلك، ولكن الثابت أن لديه قوى مناصرة تتحرك في الخفاء كما فعلت قبل الحملة الدعائية لرئاسيات 2019 وأثناءها والتي وصلت به إلى منصة الحكم في قصر قرطاج، ولديه مناصرون أغلبهم من الطبقات المحرومة والمظلومة والتي تعتقد أنه وحده القادر على نفض الغبار عن أحلامها وطموحاتها، وحتى عن الأوهام التي تتبناها كاحتكام البلاد على ثروات طبيعية يتم منذ فجر الاستقلال نهبها من قبل القوى الاستعمارية بمساعدة من عملائها في الداخل، وبقدرة قيس سعيد على حل جميع الأزمات الطاحنة والتغلب على كل العقبات، بما فيها استعادة الثروات المنهوبة وتوزيعها على الفقراء.
علينا أن نعترف بوجود حالة من الحقد الطبقي والاجتماعي والتباين الجهوي والمناطقي والفشل الجماعي تصاحبها تبريرات العجز والإحباط بأن الدولة هي التي تتعمد اضطهاد أبنائها، وهو ما نجد له صدى في الخطاب السياسي للرئيس سعيد الذي عرف كيف يقدم نفسه كمعارض حتى للدولة التي يرأسها، وذلك انطلاقا من الطهورية التي تنسب إليه، والتي لا تخفي بالنسبة إلى المراقب المحايد رغبته في أن ينفذ برنامجا كان يحلم به منذ سنوات سبقت وصوله إلى قصر قرطاج، وهو برنامج يعتمد على الجموع في تدافعها نحو التغيير الذي ترى فيه تمكينا لسلطة الشعب وإقصاء لكل من تعتقد أنه يتآمر عليها أو يستهدف مصالحها أو ينهب مقدراتها.
البعض يرى أن ما يميز المشهد التونسي الحالي هو استقالة مواطنيه عامة من السياسة بحيث لا المعارضة ولا الموالاة تستطيع تحريك الشارع أو الإعلان عن موقف شعبي جدّي وذي مصداقية
لا يمكن النظر إلى الرئيس سعيد على أنه شخصية عادية أو أنه يحمل مشروعا من تلك المشاريع المتداولة في أنظمة الحكم عبر العالم سواء للدول المتقدمة أو المتخلفة، وإنما هو يؤمن بمشروع جديد يمكن أن تعبّر عنه المصلحات التي يتبناها ويترجم بها مواقفه وتصوراته، ويرى بعض أنصاره أنه مشروع غير مسبوق، وأنه قد يكون عنوانا لمرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية، ومسودة الدستور الجديد تهيئ الظروف لذلك عبر الثغرات التي تقصّد سعيد تركها للمستقبل، وخاصة في ما يتصل بالنظام السياسي وصلاحيات الرئيس وإعطائه المجال لأن يكون فوق كل أشكال المحاسبة، وبضبابية الرؤية حول الانتخابات المباشرة ومفهوم الديمقراطية والعلاقة بالدين وتقسيم البلاد إلى مناطق وأقاليم وغيرها. بالإضافة إلى تعمد تصعيد الموقف المناهض لما قبل الخامس والعشرين من يوليو 2021. فما قبل 2011 ظلم واستبداد وتجويع وتنكيل في كل مناحي الحياة، وما حدث من السابع عشر من ديسمبر إلى الرابع عشر من يناير 2011 صعود شاهق غير مسبوق في التاريخ، وما بعد ذلك شعارات زائفة ووعود كاذبة واستفحال للفساد وتفاقم الاستيلاء على الثروات الطبيعية للبلاد والسطو على المال العام دون محاسبة.
بالنظر إلى مشروع الرئيس سعيد، فكل ما سبق عدم، والبعث الحقيقي للبلاد هو ما سيتشكل وفق الرؤية التي ستتبلور مع تدشين مرحلة البناء الثوري للجمهورية الجديدة التي ستتمحور حول شخصية الزعيم الملهم والشعب الذي يناصره ويشاركه السلطة من خلال الديمقراطية القاعدية والإدارة التضامنية للاقتصاد وآليات العمل الميداني، التي تشكلت وفق رؤية تجاوزت كل آليات الأحزاب وحددت منهجا جديدا للاختراق الفكري والسياسي بالاعتماد على تنظيمات سرية تتحرك في مختلف مناطق البلاد بشكل يبدو أقرب إلى التنظيمات العقائدية قبل الإعلان عن هوياتها ومشاريعها. ومن الطبيعي أن يتمركز المشروع حول شخصية صاحبه أو رمزه وهو الرئيس سعيد الذي يبدو وكأنه لا يحتاج إلى مساعدة من أيّ طرف كان، بل وكأنه يستطيع الاكتفاء بموظفين من الدرجة الثانية أو الثالثة شريطة أن يكونوا من المؤمنين بفكره ورؤيته، واليوم لا نرى في قصر الرئاسة لا رئيسا للديوان ولا ناطقا باسم المؤسسة ولا مستشارين من ذوي الملامح الواضحة أو قيادة معروفة لفريق إعلامي متخصص، وهو بالفعل أمر غير مسبوق في البلاد منذ استقلالها، ولكن البعض يفسره على أنه خاصيّة للرئيس الذي يبدو أن ظنه خاب في فريقه الذي كان قريبا منه خلال الأشهر الأولى، وبات يخشى الاختراق إلى درجة قطع الطريق أمام أيّ إمكانية عملية لذلك.
خلال الأشهر الماضية، تعرض الرئيس سعيد إلى الكثير من الانتقادات، وتكتل ضده المعارضون في الداخل والخارج، وتم اتهامه بالانقلاب على الدستورية والديمقراطية والتأسيس للدكتاتورية وحكم الفرد، ولكنه واجه كل ذلك بالتجاهل وعدم الاهتمام وبالمضي في طريقه، اليوم خفتت تلك الأصوات، واختار أغلبها الصمت.
هناك من يقول إن للرئيس أوراقا يمكنه إخراجها في الوقت المناسب، وهناك من يرى أن الشارع لم يعد معنيا بفكرة الثورة والتعددية والديمقراطية كما مارستها نخب ما بعد 2011، والحقيقة أن جميع المؤشرات تؤكد أن لا أحد يستطيع تغيير الواقع الحالي بأي شكل من الأشكال، وحتى القوى الغربية استسلمت أمام إدراكها لحجم شعبية الرئيس، وباتت ترى أنه من الأفضل الابتعاد عن طريقه وعدم السعي إلى مشاغبته، كما تعتبر أنه قد يكون الفرصة الأخيرة لإعادة تجميع هياكل الدولة التي فككها الطارئون على الحكم والسياسة بعد 2011، وللانطلاق في تنفيذ مشروع الإصلاح الاقتصادي المعطل منذ سنوات، فهو وبالاعتماد على شعبيته الجارفة وخاصة بين الطبقات الدنيا يمكن أن يقتحم كل الحواجز نحو أهدافه، وإذا كان الفقراء هم أول من سيتضرر من الإصلاحات فإنهم أبرز الداعمين لمشروعه، وعندما اختفت مادة السكر قبل أسابيع، اضطر البعض في الأرياف إلى طهي الشاي الأحمر بالحلوى، وهم لا يرون مانعا من شراء المواد الأساسية بأيّ ثمن بعد رفع الدعم عنها، بينما كانوا مستعدين للانتفاض في الشوارع في العهود السابقة من أجل بعض المليمات.
والرئيس سعيد لم يهتم للإضراب العام الذي نفذه اتحاد الشغل، ولا لإضراب القضاة لمدة أربعة أسابيع، ومستعد ليتجاهل كل تحركات المعارضة والنقابات، ويقود بنفسه ثورة ضد أجهزة الدولة التي يرأسها وينتقدها، ولذلك فإن لا أحد يستطيع الوقوف في طريقه، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بكيفية رد فعله على ما يدور حوله، فهو صاحب مشروع ومصرّ على المضي قدما لتنفيذه، وقد خطا خطوات حاسمة في طريقه إلى ذلك، وحتى الذين ينتقدونه بشدة يدركون أن ما يفعلونه ليس سوى مضيعة للوقت، وأن عليهم أن يتفاعلوا معه من منطلق نصف الكأس الملآن في انتظار ما ستفرزه الأسابيع والأشهر القادمة.