: آخر تحديث
رجل أجندة زاخرة بعناوين مفيدة في الداخل والخارج

محمد كريم العمراني... عجلةالاحتياط السليمة في السياسة والاقتصاد

93
79
72

الرباط: تنطبق صفة "رجل أعمال" بكل معانيها ودلالاتها، على الراحل محمد كريم العمراني، السياسي المغربي الذي توفي يوم العشرين من سبتمبر، في الدار البيضاء عن عمر قارب القرن.

الكثيرون من المغاربة وخاصة الأجيال الجديدة، يجهلون مسار الراحل الذي انطلق من مدينة فاس التي رأى فيها النور ، وهي الحاضرة العلمية والتجارية للمغرب في تلك الفترة الماضية القريبة.

تستوقف المتأمل في سيرة العمراني الكثير من العلامات البارزة أولها أنه أحد السياسيين القلائل الذين حافظوا على استقلاليتهم التامة بابتعاده عن الانتساب العلني للحياة الحزبية.

وهذا أمر نادر الحدوث في المغرب خاصة وأن الراحل العمراني تبوّأ منصب  رئاسة الوزراء ثلاث مرات في فترات مفصلية من تاريخ بلاده الزاخر بالأحداث والتقلبات والصراعات الاجتماعية.

ربما كان له، بحكم المجايلة، عطف على الحزبين الوطنيين الكبيرين: الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، لا سيما وأن اغلب القيادات التاريخية  للحزب الأول، تنحدر من مدينته فاس، حيث خالط بعضهم في قاعات الدرس أو في فضاءات المدينة العتيقة، يافعا وشابا.

لم يكن غريبا أن يقبل العمراني وهو الفاسي، العمل في ديوان الزعيم الاشتراكي السلاوي: عبد الرحيم بوعبيد، لما عين وزيرا للاقتصاد والمالية أواخر الخمسينيات في حكومة عبد الله إبراهيم.

اختار بوعبيد العمراني بناء على تقارير أجمعت  في ذلك الحين  على وطنية ونجاح الشاب في ادارة تجارته، وهذا ما سيؤهله لاحقا وطيلة سنوات لإدارة أضخم مؤسسة اقتصادية في المغرب "المكتب الشريف للفوسفات" ، وهو الذراع الاقتصادية القوية للمملكة حتى أيامنا هذه ، على اعتبار أن المغرب أكبر المصدرين  لذلك المعدن الغني بالمواد الكيماوية.

وخلال إشراف العمراني على تدبير الجهاز التنفيذي ، لم يكن محتاجا لأغلبية برلمانية أو الاضطرار لتأسيس حزب يسند بقاءه فوق كرسي السلطة، ويضمن له استقرار حكومته. والراجح أنه اعتذر بلباقة وأدب للملك الراحل الحسن الثاني، بينما امتثل آخرون من أقرانه في ذات المنصب الرفيع، مفضلا أي العمراني، أن يذكره المغاربة بهويته ومهنته الأصلية "رجل المال والأعمال" وليس السياسي المحترف، كان مؤمنا أن السياسة يجب تركها لمن هو أجدر بها أي الملك.

والحقيقة أن العمراني لم تكن له كل المؤهلات التقليدية اللازمة في الزعامة السياسية، ليس خطيبا مفوها أو  شخصية جماهيرية قادرة على استمالة الحشود الغفيرة. يمكن الجزم أن وسائل الإعلام المسموع والمرئي لا تحتفظ له إلا بتسجيلات قليلة ونادرة. حضوره، بحكم المنصب ، إلى البرلمان كان يمر سريعا، يرتجل خطابا قصيرا غالبا ما يكون باللهجة الدارجة يحتوي على الأرقام والمعطيات الاقتصادية، أكثر من احتوائه على الجمل البلاغية الرنانة، باستثناء عرض البرنامج الحكومي الذي يكون مكتوبا فيضطر إلى قراءة خلاصته. كان رجلا عمليا يؤمن بالافعال أكثر من الأقوال لذلك خرج سالما  من معارك السياسة.

وظل العمراني محافظا على صورته وسمعته، ممتنعا أو زاهدا في الأضواء الإعلامية، ورغم تمتعه إلى آخر العمر بصفاء ذهني، فإنه لم يدل بأحاديث صحافية كما لم ينشر مذكراته مثلما لم يفاخر بوطنيته والأدوار التي قام بها لخدمة اقتصاد بلاده، ما جعله يحظى بثقة وتقدير الملك الراحل الحسن الثاني الذي استعان به في أوقات حرجة عرفها الاقتصاد المغربي في غضون العقود الماضية.

وبهذا المعنى ظل العمراني بمثابة عجلة الاحتياط السليمة، تتم الاستعانة بها  كلما ألقت التحولات السياسية والاقتصادية بثقلها على البلاد ؛فلا يجد الملك أفضل من العمراني، القريب من عالم المال والتجارة، والذي راكم الخبرة والثروة من خلال الأنشطة التي مارسها  وشبكة العلاقات الواسعة التي نسجها في الداخل والخارج، فدرت عليه ربحا ماديا ومعنويا، أغناه عن الانغماس في المعترك الحزبي الذي لم يجلب للذين تحمسوا له سوى وجع الرأس أو انتقادات الناس ، مبررة كانت أم ظالمة.

في هذا السياق ، يعتبر الراحل العمراني، علامة اقتصادية واجتماعية مثيرة للإعجاب في تاريخ المغرب الحديث ؛ فهو الرجل الذي عرف قدره، اشتغل في مجال يعرفه حق المعرفة ، وأعطى من خلاله نتائج ملموسة.

صحيح أن الراحل سليل مدينة فاس، المشهورة بدماثة أهلها ولطف سكانها وتمرسهم بفنون التجارة التي تقتضي حلاوة الحديث ومرونة في التعامل وصبرا أمام إلحاح الزبون، وهذه سجايا اتصف بها العمراني، لكن فوق ذلك تمتع الراحل بموهبة لا يقدر أهميتها إلا قليلون.

علمته معاشرة رجال المال والتجارة من خلال المواقع التي عمل فيها، أن يحمل معه دائما أجندة عناوين، يدون فيها أسماء من تعامل معهم واحتك بهم، أو ارتأى  بفطرته السليمة أنهم يمكن أن يفيدوه في يوم من الأيام إن طلب مساعدتهم أو مشورتهم، ومعلوم أن عالم المال ، يستقطب الناس من كل الفئات والأسر والانتماءات والأعمار.

بعض الذين عملوا مع الراحل في رئاسة الحكومة يذكرون  أنه كان كثيرا ما يعود لأجندته التي لا تفارقه، يستعرض الأسماء والعناوين المدونة فيها، يسأل عن صديق، يطمئن على آخر صحيا، يهنئ هذا وذاك في مناسبة دينية أو عائلية، يكلف من يحمل باقة ورد إلى من يرقد في المستشفى أو هدية للذي يحتفل بمناسبة سعيدة. وفي تلك الأجندة أسماء أصبحت ذات شأن.

تلك الكياسة في الشخصية، ولطف المعشر، أفادت  العمراني كثيرا في المهام الصعبة وخاصة الاقتصادية التي اضطلع بها.
رحل عن هذه الدنيا مخلفا الخير بكل معانيه، والذكر الطيب... رمز آخر يودعه المغرب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في أخبار