ضع نقطة على سطر الزمن؛ فالحياة العراقية البسيطة التي كنا نحلم بها قد انتهت، وأصبحت كالوهم؛ فهي السراب بعد الخراب؛ فلا مجال أن نعيش بها، ونتعايش معها، صار أغلى أحلامنا بعدما رأينا الدنيا تسير بالمقلوب أن نرجع صغارًا.
صارت الدنيا وصار الناس كالرقم الخطأ، فالهاوية تتسع بين الناس على المحبة والإيثار، والآلام تتعاظم بسبب الحسد، وفقدان القناعة والقبول بالمقسوم. والرؤية عمياء في تَبصُّر الحقيقة وقول الحق.
لا بارقة أمل، كما يبدو، وأنت تتجول بين الناس والشوارع والحارات؛ فالماديات أزهقت روح الناس، وشوَّهت الحياة، وسلبت من البشر طاقاتِهم الإيجابية، وجمال قيمهم. الكل يذهب إلى هاوية الوهم؛ لهو ولعب بالأبدان، ولهو بالقلوب، وقتال بسلاح الشر والحقد؛ للاستيلاء على المال الحرام.
فوضى في تصدير البذاءات والشتائم والسُباب والتجريح والتهريج، والانفلات في لغة الحوار التي أصبحت سلوكًا عاديًّا ومألوفًا، وفوضى الشوارع القبيحة المليئة بأصوات السيارات، وزعيق الناس المتوترة بضنك العيش، ومخالب العِوَز، وفقدان الأمل.
الأسوء، افتقاد السلوك الاجتماعي للرزانة والرقي والتحضُّر؛ حيث طغى السلوك الريفي على حياة "البغدنة"، فانتشرت قيم الريف السلبية؛ كالقتل والثأر والمنازعات العشائرية؛ لتأكل ما تبقى من قيم المدينة وعناصرها السلوكية الجميلة. وامتلأت الشوارع بالحيوانات المتجولة؛ السائبة والناقلة والمعدة للذبح، فلا تكاد تصدق أنك في مدينة عريقة مثل بغداد، ولا تصدق أنك تعيش بين أهلك ومدينتك.
لقد اكتشفت حقائق عديدة من الحياة الميدانية بعد عودتي للوطن. فالوطن ليس هو المكان فقط؛ ولكنه الكرامة والأمن والأمان؛ حيث يكون المرء في خير وطمأنينة وسلام واحترام، وإحساس بالكرامة. لا الغني مرتاح، ولا الفقير مرتاح في بلدي. هو الإيحاء المخادع للعقل، وانفصام الذات. لذلك قال نجيب محفوظ: "وطن المرء ليس مكان ولادته، ولكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب!". سئل الفيلسوف جان جاك روسو ما الوطن؟ فأجاب: الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه مُواطِن من الثراء ما يجعله قادرًا على شراء مُواطِن آخر، ولا يبلغ فيه مُواطِن من الفقر ما يجعله مضطرًا أن يبيع نفسه وكرامته.
ويبدو أن الزمن الذي يخاف فيه أهلنا عليه من الغربة قد انتهى، وجاء زمنٌ نحن فيه في غربة، ونخاف على أهلنا من الوطن! وكما يقول الإمام علي عليه السلام " الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة" و"أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه"، كما يرى أبو حيان التوحيدي.
عدت إلى الوطن والأهل، لكنني وجدت الوطن غارقًا في وحل مافيات الفساد والسلاح، ووجدت لصوصًا ينتشرون: فيالقَ للنهب، وحثالات وجهلة تتسيَّد المناصب والوظائف، وسرايا عملاء للتخريب والتنصت وبيع الأوطان، وسياسيين يتناحرون للفوز بمال الشعب الفقير وخُمس الله، ومولات ومطاعم لتنمية البطون والجيوب والوجاهات الكاذبة مقابل تنمية الخراب والدموع والجراح والمزابل والمستنقعات.
وجدت أهلي يأكلُ بعضهم بعضًا، ويتنابزون بالطوائف والألقاب، وقد ذهبت عنهم المروءات والخير والحسنات، وانتشر بينهم النفاق ونميمة القيل والقال، وقلًّ لديهم أدب الحوار واحترام الكبير والجار والقريب. رأيت أبناء يقتلون من ربَّاهم صغارًا من أجل حفنة دولارات أو من أجل ميراث زائل، ورأيت أبًا يبيع أبناءه علنًا في مزادات بيع البشر، وشيوخًا على قارعة الطريق قذفهم الأبناء ضجرًا منهم، وشبابًا مغيَّبين بأوحال المخدرات وتدخين الشيشة.
عُدتُ إلى الوطن غريبًا، وتعلمت الدرس الأول: أن أملأ جيبي بالنقود، وأجيد فن الفساد، وأن أقضي معاملاتي الأصولية والقانونية بالرشاوي والتملق والنفاق، حتى ولو كانت إثبات شخصية أو صحة صدور، وأن أدع كرامتي وكبريائي جانبًا لأستعد لمعارك أزمات الخدمات والحاجات الضرورية للإنسان، والوقوف لساعات في الطوابير الطويلة؛ للحصول على الغاز أو النفط أو حصة تموينية بائسة، وأن نتحمل عصبية وزجر هذا العامل وذلك الموظف الذي لا يجيد أحيانًا كتابة اسمه بالحروف الأبجدية!
رأيت العجب العُجاب؛ منطقة "خضراء" فيها جنائن معلقة للأسياد، أنوارها تتلألأ، وريحانها يهتز، وقصورها مزخرفة بالموزاييك والمرمر، ينعمون بجمالها ويقيمون في ظلها، وينالون فيها كل ما تشتهيه أنفسهم وتقر به أعينهم، وحللا كثيرة، "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، يسكنها الحثالات واللصوص وتجار السياسة، وجهلة القوم والعملاء.
ومنطقة سوداء، أنوارها مطفأة، وبيوتها مهدَّمة، وشوارعها متعرِّجة، وناسها جِياع يبحثون عن رغيف الخبز في المزابل، مشغولون بالبكاء والشكوى والمطالب، ورفع الأعلام الخضر والبيض على السطوح. يبتهجون بالأحزان والطقوس، والبكاء على التاريخ.
مؤلم أن تعيش عمرك بين ثورات ونزاعات وأزمات لا تُمثلك، وصراعات وتناحرات لا تعنيك ولا تشغلك. وأن تئن وتصرخ وتتوجع، وأن ترى بعينيك هذه الفوضى، وهذا العبث والهراء. وأن تنطفئ طموحاتك للدرجة التي تجعلك لا تتطلع إلى المستقبل ولا ترى الأمل؛ بل صرت تحلم أكثر وأكثر بأن تعود إلى الوراء.
مؤلم أن تعيش في وطن أصبحت فيه الحقوق بمثابة أحلام، والأحلامُ مجردَ أوهام، وأن تعيش الظلمة بحثًا عن كهرباء الحكومة، ومكرمة تجار المولدات، فأنت بين حاكم ظالم يسرق عقود الكهرباء بمليارات الدولارات، وبين تاجر أظلم منه يحتكر حياة الناس بمقياس الأمبيرات. وأن تعيش بين غابات الأسلاك التي تملأ سماء البلد بلوحة تجريدية، وأن تشم رائحة الدخان الأسود، وسموم النفايات المختلفة؛ لتموت مختنقًا غير مأسوف عليك!
على أنني لا أتوقع أن يغضب الناس من بعض ما قلتُه عن الواقع؛ لأن الصدق لا يغضب العقلاء، وإنما الغضب يكون من التحامل البغيض الذي تُمليه الضغائن أو الأهواء؛ فأنا أغار على الوطن مثل كل العشاق، وأتمنى أن يبلغ أرفع درجات الرقي والعمران، ويحمل مصابيح الثقافة والعلم، ويدخل الحياة المدنية الصحيحة التي تعشق الأنوار وتبغض الظلمات. قال أبو تمام: "كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى – وحنينُه أبدًا لأوَّلِ منزلِ".
و"أصعب الخيارات، أن يكون آخر الحلول جرح مَن تحب"، وتختار الرحيل من جديد، لتترك من يريد تعليمك "الوطنية"، ويقول لك: بلدك يحتاجك شرط أن تتنازل عن ضميرك وكرامتك.