: آخر تحديث

بلال فضل تخرّج من شقة "أم ميمي"

59
60
45

بلال فضل صحافي يجيد صوغ العبارة المباشرة، وكاتب دراما، وسيناريست ذو نهكة شغب ومؤانسة، فضلًا عن انه حكاء بحروفٍ مطبوعة. لسانه "فلتان"، وكلامه مثل ( ....) الحرام،  له طعم مختلف ومشوّق. السخرية سمة نصه، فعناوين كتبه وأفلامه ومسلسلاته تفضح هذا بكل سفور.  وهو كشف عن "ما فعله العيان بالميت"، و "فتح بطن التاريخ"، واخترع "وصفة جديدة للأرز بالشعيرية"، وحدثنا عن قصص "بني بجم"، و"بلطيه العايمة"، ورسم صورة "صايع بحر"، وهتك استار حياة "اهل كايرو" ، و"اهل اسكندرية"، وكتب رواية عن ما جرى من حكايات وبلاوي في شقة "أم ميمي".

بلال فضل كاتبٌ شعبي محتج وقلق. جمع اصواتا بسيطة، وصنع كتابة شديدة الصخب والمعارضة والشجن. نصه شمس في يوم غائم. متمرد ومتصالح. يكره الفقر، ويقسو على الفقراء ويحبهم في آن. يكتب بشك يشبه اليقين، او يقين يضج بالشك. 

بلال يتمتع بحضور عند الناس والنقاد. وهو وصل الجمهور، والصحافة بواسطة نصه الذي يشبه نشأته وحياته. وتدخلت الكتابة الدرامية في رسمه نجما في عالم المبدعين. لكن اخر اعماله أفسد هذا المشهد. 

حبّه للفن والدراما والصحافة وعالم المشاهير ساقه إلى شقه "ام ميمي" التي افقدته رضا والديه وبعض محبيه، وكثيرا من النقاد والقراء. اتهم بالبذاءة، والفجاجة، وقلة الأدب. والكلام الذي قيل عن روايته الأولى تجاوز ما كتب عن احسان عبد القدوس في زمنه، ولسان حال منتقديه يردد "الله يحلل عبدالقدوس عند ولده بلال". 

كان احسان عبدالقدوس يصف ملابس النساء الداخلية، ولا يتردد  في كشف اسرار غرف النوم.  لكن بلال "كتب رواية "ملط" ربي كما خلقتني. وصف الأجساد، والاثداء كلها، الجميل منها والقبيح.

وكتب نصا "ثقافيًا " بامتياز. ومارس حال من لوثة خيال بلدي "اوي"، و هو تفنن  في وصف الشتائم، وشخر لقراء الرواية بكل الألحان والطبقات الصوتية،  وردح، وخلط كلاما صالحًا بآخر سيئا.

بعض من كتب عن الرواية، التفت إلى سلة البذاءة التي تزخر  بها، فصبّ جام نقده على الحوارات الدنيئة، والتصرفات الكافرة لأبطال الشقة، الملعون أهلها. لكن في غمرة رفضه غياب "التأدب"، وليس "الأدب"، ومجافاة الفضيلة في حوارات واجواء شقه "ام ميمي" وعالمها_ الذي اصبح الفأر فيه شخصية مهمة_ فاته تداعي السرد المذهل في نص الرواية، وتدفق اللغة على ألسنة ابطالها، وسلاسة انتقال الحوار بينهم، ولعبة الزمن فيها، التي أمسك بها بلال من تلابيبها، وباحتراف يُعدّ سابقة في الرواية العربية الحديثة، حتى اصبح  القارئ يعيش زمن "أم ميمي"، ويراقبه في آن.

زاوج بلال فضل في روايته الأولى "أم ميمي" بيّن تقنيات الكتابة، على نحو تجاوز التجريب الى الاحتراف. كتب نصوصًا، متعددة ومتداخلة، داخل نص الرواية. جمع بين الحكي والمقال والوصف وحبك الكلام والسرد، والمنولوج والديلوج، والحوار والتحقيق والسجال اللغوي، الذي صار مبارزة نصية.

صنع بلال رواية تشبه للوهلة الأولى أسلوب نجيب محفوظ في الثلاثية، لكن بلال تمرّد على أسلوب "محفوظ " في صناعة البطل ومفهوم البطولة في الرواية. 

أبطال "بلال" يشبهون أبطال نجيب محفوظ نسباً، ويختلفون عنهم في ذات الوقت. 
"أم ميمي" لا تشبه "أمينة" في ثلاثية نجيب محفوظ. كل من قرأ ثلاثية نجيب محفوظ أحب "أمينة" التي تشبه الأم والعمة والخالة. ومن يقرأ رواية بلال فضل يشمئز من "أم ميمي"، ويحتقرها، لكنه يتعاطف معها، وربما يحبها كأم انهكها الزمن والزنا.  
لعب بلال فضل دور الراوي في شكل متميّز.

وهو سيطر على مكان الراوي، وانسحب منه، أحيانا، من دون ان ندري او يدري. وفي الحالين ظلّ شخصية محورية يجري الصراع حولها. وهو تحكم بالدورين على طريقة "أنا البرادعي يا رشدي"، في المسلسل الشهير. 

يصف بلال فضل الأمكنة، ويزيلها من ذكرة القارئ، مثلما يفعل مع أشكال شخوص الرواية التي أبدع في تجسيد أرواحها من دون أوصافها. 

قارئ رواية "أم ميمي" يتذكر طباع ومزاج الشخصيات ومواقفها من الحياة، لكنه لا يستطيع ان يتخيّل شكلها تمامًا، رغم ان الكاتب رسمها، باحتراف. 

رسم بلال أبطال راوية "أم ميمي" على الماء، صارت شخصيات معنوية. انتصر كاتب الرواية على الراوي، وان شئت الكاتب على القاص.  

أثبت بلال فضل في هذه الرواية ان أسلوب نجيب محفوظ في الرواية يلد ولا يستنسخ. وأن نجيب محفوظ سيبقى مدماك الرواية العربية، مهما تأثر كتابها الجدد بالإباء العرب المحدثين والأجانب.  

بلال فضل حفيد متميّز للاب الأعظم للرواية العربية نجيب محفوظ. فضلًا عن ان له عذوبة جبرا إبراهيم جبرا، وتشويق عبدالرحمن منيف، وطلاوة غالب هلسا. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف