السؤال ليس كيف تستولي على السلطة في بلد ما، لكنه كيف ستدير هذا البلد بعد استيلائك على السلطة فيه؟ والشواهد التاريخية كلها تقول إن الجماعات التي نجحت في الوصول إلى السلطة دون أن تملك برنامجا أو رؤية، دعك من امتلاكها خبرة متراكمة في أمور السياسة والاقتصاد والإدارة، انتهت إلى فشل ذريع. وبعبارة أخرى، ليس المهم أن تستولي على القصر الرئاسي ودار الإذاعة ومحطة التلفزيون ومرافق البلاد الحساسة كي تعتبر نفسك منتصرا، وإنما انتصارك الحقيقي يكمن في نجاحك ومقدرتك في إدارة البلاد وتحقيق قدر من الأمن والاستقرار والرخاء المعيشي لمواطنيك.
فإذا كانت جماعة مثل «الإخوان المسلمين» فشلت في إدارة كل الدول التي وصلت فيها إلى الحكم بدءًا من السودان ومصر وانتهاء بتونس والمغرب، وهي الجماعة صاحبة التاريخ الطويل في العمل السياسي والمراوغة والتحايل والخبث، فما بالك بحركة طالبان التي لم تظهر على الساحة إلا في عام 1996 وعاش زعماؤها من أنصاف المتعلمين وعديمي الخبرة في الكهوف ملتحفين بأغطية تحريمات ما أنزل الله بها من سلطان.
نقول هذا على ضوء العقبات التي تواجه طالبان في أعقاب عودتها إلى السلطة في كابول مؤخرًا بـُعيد الانسحاب الأمريكي الفوضوي من الأرض الأفغانية. وهذه العقبات كبيرة ومتنوعة ومتداخلة ما يشكل تحديا للحكومة الطالبانية التي تشكلت بعد مخاض عسير وتأجيل أكثر من مرة من وزراء لا يمتلكون من المؤهلات العصرية شروى نقير. ولسنا بحاجة، في هذا السياق، إلى التذكير بأن حكومة طالبان القديمة التي تولت السلطة في كابول في الفترة ما بين 1996 ــ 2001 فشلت فشلاً ذريعًا ليس في سياساتها الداخلية فحسب، بل وفي سياساتها الخارجية أيضا بحيث لم تجد من يترحم عليها وقت سقوطها.
لقد ظهرت التحديات التي يواجهها النظام الطالباني الجديد مبكرًا عندما فشل الحكم في كسب ولاء العديد من الأعراق والأطياف الأفغانية التي شعرت ــ على الأقل ــ بشيء من الأمان في ظل الحكم السابق، وهو ما جعلها تخرج في مظاهرات ضد طالبان وأجنداتها المعروفة انتهت بالقمع. ثم رأينا كيف أن الحكومة الطالبانية الجديدة عجزت عن إدارة مطار كابول فراحت تطلب مساعدة بعض الدول الأجنبية في هذا المجال لنقص خبرة كوادرها الفنية والإدارية. وفي الأيام القليلة الماضية ظهرت تقارير حول عجزها، لذات الأسباب، عن إدارة البنك المركزي الأفغاني وتأمين ضرورات الحياة للمواطنين، خصوصا في ظل تجميد أصولها المالية في الخارج وعدم حصولها على اعتراف دولي من أي جهة، الأمر الذي دفع الجهات الأممية إلى قرع أجراس الإنذار والقول إن «انكماشًا اقتصاديًا حادًا ينتظر أفغانستان قد يلقي بملايين الأفغان في براثن الجوع والفقر مجددًا ويولد موجة جديدة من اللاجئين وبالتالي يعيد الأمور إلى الوراء لأجيال» طبقًا لما صرحت به «ديبورا ليونز» ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة إلى أفغانستان خلال اجتماع لمجلس الأمن مؤخرًا. ومما قالته الممثلة الأممية أيضًا: «إن سلطات طالبان لا تستطيع توفير سيولة كافية لدفع الرواتب ولا تستطيع وقف انخفاض العملة و منع الارتفاع الحاد في أسعار الغذاء». والمعروف أن هذا الوضع كان غائبًا في ظل الحكومة الأفغانية السابقة التي كانت تتمتع باعتراف دولي واسع، وتحصل على أكثر من 75% من إنفاقها العام من الولايات المتحدة.
وفي ظل التنافس الأمريكي ــ الصيني وقفت بكين موقفًا مؤيدًا لطالبان بدعوتها عبر نائب مندوبها في مجلس الأمن «جينغ شوانغ» إلى ضرورة إفراج واشنطن سريعًا عن أموال البنك المركزي الأفغاني المجمدة والبالغ مقدارها نحو تسعة مليارات دولار لمساعدة حركة طالبان في إدارة أفغانستان اقتصاديًا، بينما شدد السفير الكندي السابق في كابول على ضرورة مراقبة الحركة أمميا لجهة طريقة انفاقها لأموال المساعدات التي تحصل عليها الآن ومستقبلاً. كي لا يتم استخدامها في أمور لا تدخل في صالح المواطن الأفغاني.
ومن نافلة القول إن التحديات التي أشرنا إليها تبدو في طريقها إلى الاستفحال على ضوء تفشي وباء كورونا بين المواطنين الأفغان، ودليلنا هو ما ذكرته «كاني ويناراجا» مديرة المكتب الإقليمي لآسيا والمحيط الهادئ في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مؤتمر صحفي من أن 72% من الأفغان يعيش على دولار واحد في اليوم، وأن هذا الرقم سوف يرتفع إلى 80% بحلول منتصف العام المقبل، وذلك بسبب «نضوب الدعم المالي الأجنبي وتفشي وباء كورونا».
وتتعدد السيناريوهات المعروضة أمام النظام الجديد في كابول للتغلب على مصاعبها المالية. أحد هذه السيناريوهات هو أن تلجأ حركة طالبان إلى تفاهمات وتنازلات مع دول الجوار كي تحصل منها على الأموال، غير أن مثل هذا السيناريو يصطدم بحقيقة أن كل جيران أفغانستان ــ باستثناء الصين ــ تعاني من أزمات اقتصادية ونقص في الأموال. أما السيناريو الآخر الذي تحدث عنه العديد من الخبراء والمراقبين فهو لجوء الطالبانيين إلى زراعة الخشخاش وتصديره من أجل الحصول على موارد مالية، كما فعلوا على مدى سنين طويلة لتمويل حركتهم ومدها بالسلاح وتجنيد المقاتلين والأنصار، وهذا السيناريو سيعمق مشاكلها مع المجتمع الدولي بطبيعة الحال.