إيلاف من دمشق: بصدور "ممحاة العدم، دراسات سيميائية في الأدب العماني الحديث"، يخطو الشاعر والناقد والروائي السعودي حامد بن عقيل خطوة متقدمة على طريق مشروعه النقدي ومشروعه الأدبي في مفهومه الأوسع، حيث يستكمل الكاتب ما كان بدأه في كتاب "عصر القارئ" وما سبقه، ليقدم في كتابه الجديد تطبيقات نقدية على نصوص شعرية وسردية جميعها من عُمان، تلك البلاد التي تمتلك العمق التاريخي والثقافي الضارب في القِدم، كما تمتلك التراكم الأدبي الجاد والثري منذ قرون، وهي إلى ذلك تعيش اليوم عصراً من أبهى عصورها في الإنتاج الأدبي على مستويي الشعر والسرد، فكان هذا الكتاب بكامله موجّهاً لتقديم تطبيقات نقدية تأويلية سيميائية على تسعة كتب، ثلاثة دواوين شعرية، ثم ست روايات.
يتناول القسم الأول من الكتاب ثلاثة دواوين شعرية؛ جاء التطبيق الأول سيميائياً على ديوان "جيشٌ من رجل واحد" للشاعر: عبدالله الريامي وفق نظرية الأسلوبيات التأثيرية لستانلي فيش، ثم تطبيق نظرية "القارئ الضمني وملء الفجوات" لآيزر على ديوان "القفز في المنتصف" للشاعرة: فتحية الصقري، ثم تطبيق نظرية "المقدرة الأدبية" لمايكل ريفاتير على ديوان "حانةٌ بعيدة" للشاعر: صالح العامري. بينما تناولتُ ست روايات في القسم الثاني من الكتاب، حيث بدأ بتطبيق نقدي سيميائي وفق نظرية التلقي "الهوية الأولية" لنورمان هولاند على رواية "القناص" للروائي: زهران القاسمي: ثم تطبيق نقدي سيميائي على رواية "دلشاد" للروائية: بُشرى خلفان "من الإغلاق إلى الانفتاح الدلالي"، ثم تطبيق سيميائي وفق "نظرية العماء" على رواية "المموِّه" للروائي: محمود الرحبي، ثم، تطبيق سيميائي وفق نظرية "المروي له" على رواية "دفاتر فارهو" للروائية: ليلى عبدالله، ثم تطبيق سيميائي على رواية "لعنة سين" للروائي: بسّام علي، وأخيراً، تطبيق سيميائي وفق "المنظور الذاتي" لجماليات التلقي على رواية "الذي لا يحب جمال عبدالناصر" للروائي والإعلامي: سليمان المعمري.
عصر القارئ مرَّةً أخرى
يأتي كتاب "ممحاةُ العدم" إذاً كجزء من مشروع أساسي ومتواصل للكاتب، يصب في التزامه بتتبع نماذج رفيعة من الأدب العربي الحديث، للعمل عليها من خلال دراساتٍ تطبيقية تتوسل تدريب القراء على التلقي لأي نص يصادفهم. وهو يقول في هذا الصدد: "ليست وظيفة الناقد أن يقدّم دراسة نقدية لكل عملٍ أدبي، ولن يستطيع ولو شاء، فلا مناص إذن، والحال كذلك، من تدريب القراء على تشكيل أساليب نقدية ذات فاعلية في مواجهة النصوص بدلاً من تركهم للناشرين العرب لتشكيل وعيهم، من خلال كتّاب الصحف والأعمدة المقالية المتواطئة على التسويق أكثر مما هي مهتمة بتقديم أطروحات نقدية جادة ومؤثرة، أو أن يُترك القارئ العربي لتفضيلات الجوائز العربية، وحتى العالمية، تلك التفضيلات التي لا تخضع لمعايير نقدية بالضرورة، فكم من ديوان شعر فاز بجائزة وهو لا يستحق، وكم من رواية حصلتْ على جائزة فكان مستواها صادماً".
أما لماذا هذا الكتاب؟ يقول الكاتب في التقديم: "منذ مطلع هذه الألفية وأنا أحاول الاشتغال على تعزيز أدوات التلقي لدى القارئ العربي الذي تستهدفه النصوص، ذلك أن النقد الأكاديمي يبقى في الغالب رهين ساحات السجال الجامعي والملتقيات الخاصة بالنُّخب الأكاديمية، وهو إلى ذلك ينحو، باتجاه التنظير أكثر مما يسعى لتقديم تطبيقات إجرائية على نصوص شعرية أو سردية عربية يمكن أن تساهم في مدّ القراء العرب بآليات تلقٍ نقدية حديثة، كما أنه، أعني النقد الأكاديمي، لا يسهم في سدّ فراغ التطبيق النقدي، الفراغ الذي كرّسته الجامعات ذاتها بإصرارها على تدريس علوم البلاغة العربية وكأنها إرثٌ مقدّس".
لكن ما الذي يفسر انحياز الجامعات في العالم العربي ضد التطبيق النقدي؟ يردنا الكاتب إلى أربعة أسباب، أولها "أن القائمين على إقرار المناهج فيها يربطون بين البلاغة العربية وعلومها وبين القرآن الكريم وعلومه، وبشكل أقل بينها وبين الشعر العربي القديم، فجعل هذا الأمر البلاغة جزءاً من إرثٍ مقدّس حتى وإن لم يكن ذلك الإرث البلاغي فاعلاً"، وثانيها "فقر أساتذة الجامعات، إضافة إلى كسلهم البحثي، فيما يتعلق بالاتجاهات النقدية اللسانية، فمثل هذه الاتجاهات كانتْ، وستكون على الدوام، بالنسبة لبعض الأكاديميين في العالم العربي عِلماً مجهولاً، ولبعضهم الآخر مجرد مشروع خاص، بحيث لا يُراد منه تغيير شيء على مستوى الأقسام في كليات اللغة العربية أو كليات الآداب، فبقي الوضع على ما هو عليه: جامعة تُدرِّس أقسامُها لطلابها الطباق والجناس والتورية، ثم ينطلق أساتذتهم للجدل الخاص في منتديات ثقافية يحضرها من لا يحتاجها لاستعراض الترجمات وتقديم البحوث لنيل الدرجة العلمية والترقي الوظيفي لا أكثر". أما ثالث هذه الأسباب فيعود بحسب الكاتب "إلى ضعف حركة الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وتحديداً ترجمة التطبيقات النقدية، للاستفادة منها ومن منجزاتها في رفع ثقافة المبدع والناقد والمتلقي العربي"، وهناك سبب رابع يعود "بدرجة كبيرة إلى طرفي المعادلة: المبدع المنتج للعمل الأدبي ومقابله المتلقي الذي يتلقف ما ينتجه الكتّاب بطريقة آلية جعلت من النصوص مجرد تقاليد، تُنتج من قِبَل الكتّاب على ضوء مثال سابق، أمّا من جهة القرّاء فيتم تلقيها في ضوء خبرات غائمة عائمة تختلف من متلق إلى آخر، فكانت نتيجة هذه العملية المتناسخة أن نجحتْ الجوائز الأدبية والمؤسسات الثقافية والإعلامية في توجيه القراء نحو أعمال أدبية قد لا يكون مبرر فوزها أو تقديمها مبررا إبداعياً، بل لقد انتشر النقد الصحفي ونقد كتَّاب الأعمدة الذي هو، في غالبه، مجرد عروض تقديمية تخضع لآليات "سوق كِتاب" لا يدرك القارئ العادي وجوده فضلاً عن إدراك خفاياه والنزعة التسليعية فيه، ولا يعي جوانبه المادية التي يتم بناؤها بشكل مقصود، أو حتى غير مقصود، بين الناشر والصحف وكتّاب الأعمدة اليومية أو الأسبوعية".
من هو حامد بن عقيل؟
يذكر أن حامد بن عقيل شاعر وناقد وروائي سعودي، صدرت له خمسة دواوين شعرية هي "قصيدتان للمغنّي / مرثيتان توغلان (1999) و"يوم الرّب العظيم" (2005)، و"يجرّد فوضاه" (2009)، و"إله المسخ" (2010)، وأخيراً، ضمن سلسلة "شعراء" التي تصدر عن دار جدار للثقافة والنشر، وتعنى بنشر قصيدة النثر لشعراء العربية، ديوان "في عالمٍ نُنْكره" (2024). كما صدرت له روايات هي "الرواقي" (2008)، و"وادي نون" (2023)، و"جمهورية أهريمان" (2024) في طبعة إلكترونية عن دار جدار. وصدرت له عدة كتب في النقد التأويلي هي "فقه الفوضى" (2005) و"إله التدمير" (2010)، و"عصر القارئ: مقدمة في التأويلية" (2011)، ثم "ممحاة العَدَم: دراسات تطبيقية سيميائية في الأدب العماني الحديث" (2024)، كما صدرت له ثلاث كتب في الكتابة التجريبية تحت مسمى سيرة افتراضية، هي "مسيح" (2006)، و"سبينوزا" (2007)، و"أماديوس" (2009). تُرجمت روايته الأولى "الرواقي" إلى اليونانية وصدرت عن دار اسكندرية بأثنيا (2024).
صدر كتاب "ممحاة العدم، دراسات سيميائية في الادب العماني الحديث"، عن دار الحوار في اللاذقية، وجاء في 320 صفحة من القطع المتوسط.