تنبجسُ فاعلية العمل الروائي من اللحظة التي يبدأ فيها السرد بإشاعة قدر من التوتر الدلالي لدى القارئ. هذا التوتر ينهض على الصدمة السياقية التي يُفاجأ بها أثناء القراءة، أو على الإحساس بدهشة ما مغايرة تخالف الصياغة السردية أو تخالف توقعاته، أو ترتكز على المفارقة، أو الرؤية الضدية التي تنتج من خلال حدث ما.
هذا التوترُ يومئ في التو إلى أننا تلقاء عمل مختلف، سوف يتكلل بأبعاد بولوفونية متعددة الأصوات، متنوعة الدراما، متجددة في لحظاتها الوصفية والسردية.
الفضاء الدلالي
هكذا يمكن لنا أن نطل على رواية الكاتبة الكويتية عائشة عدنان المحمود "عباءة غنيمة" الواقعة في ( 224 صفحة) التي توتّرُ دلالاتها، وتنبثق منذ الوهلة الأولى للقراءة.
إن الرواية تشكل فضاءها الدلالي منذ ولادة الشخصية الرئيسية بها، وهي شخصية فيصل الابن الأصغر لغازي عبدالعزيز بن عثمان، بعد عبد العزيز وشقيقتيه: بدور وشيخة، وشخصية الأم: مريم، والجدة مزنة، ثم أمينة الزوجة الثانية لغازي وابنتها: سها.
هي أسرة كويتية، من عائلة تسكن (الفريج) وتقوم الشخصية الرئيسية (فيصل ) بسرد الأحداث، بشكل انتقائي متتابع يرتكز على ذكر تاريخ مفصلي معين، وذكر الأحداث التي مر بها، على المستوى الفردي الشخصي، وعلى مستوى العائلة، وعلى مستوى التاريخ الكويتي بشكل عام.
إن التوتر المبدئي الذي يجذب القارئ في الرواية أو يصدمه، هو ذكر تاريخ ميلاد فيصل، حيث ولد في (15 مايو 1948) وهو تاريخ النكبة، وتاريخ إعلان الكيان المحتل لفلسطين.
بنية تاريخية
وقد أسست الكاتبة روايتها (الصادرة عن دار الساقي، لندن 2022) على بنية روائية تتمثل في:
اختيار بنية تاريخية للرواية تبدأ من مايو 1948 إلى أغسطس 1990، وهو تاريخ الغزو العراقي للكويت، ويُعاد تاريخ الغزو في نهايات الرواية بأكثر من عنوان، وما بين التاريخين تتوالى تواريخ أخرى حاسمة لدى الشخصية الرئيسية بالرواية، تتنقل محليا وعربيا، لتبرز درامية هذه المرحلة من جهة، وتعبّر عن التحولات الكويتية والعربية من جهة ثانية، كذلك التعبير عن القضية الفلسطينية.
وتتماس رواية: عباءة غنيمة مع الرؤية التاريخية من ثلاث وجهات، مشكلة حالة من الزمن الماضوي المستمر الذي لم ينقطع بالضرورة ولكنه يجوس في دخيلة النفس ومكامنها ليلقي بإسقاطاته المتضمنة أو المتضادة على اللحظة الراهنة.
تحولات
إن الرؤية هنا ستكون خليقة برصد التحولات التاريخية ووضعها حيال القارئ ليتبصر بما حدث من جهة، ويضع مقارنة دلالية بين هذه التحولات والواقع الراهن الذي يعيشه.
وقد جاءت الوجهات الثلاث من عدة اعتبارات.
- الأول: بسط الأحداث التاريخية العربية بشكل عام، وقد أشارت إليها الكاتبة عبر إشارات تاريخية، مع بعض الفقرات السردية الموجزة.
- الثاني: عرض التحولات التاريخية الكويتية وتحولات المكان وسيرته، ونحن هنا تلقاء عناق سردي بين الزمان والمكان معا.
- الثالث: سرد التحولات الشخصية للبطل بالمفهوم الكلاسيكي الذي يجعله محور الرواية وصنعها.
بعد زمكاني
كما ارتكزت الرواية على بعد مكاني جلي، يتحرك من هذه المنطقة الكويتية الصغيرة العريقة (الفريج) إلى الوطن (الكويت) ككل، إلى التنقل ما بين الكويت وبيروت والقاهرة واللاذقية وباريس.
هذان البعدان الزمني والمكاني، وسّعا من الفضاء الروائي للرواية، وأضفيا قدرا من التوتر السردي من التنقل السردي من مكان لآخر، ومن لحظة زمنية إلى لحظة أخرى، كما وهبا الرواية بعدا سرديا دائريا، حيث كانت بدايات الرواية تعبر عن تاريخ الغزو العراقي للكويت وتعود لتنتهي به في المشاهد الأخيرة، كما بدأت بولادة فيصل واختتمت برحيله.
ثلاثة فصول
ومن وجهة بنائية فنية وقعت الرواية في ثلاثة فصول، كل فصل تتقاطعه مجموعة من العناوين الداخلية، والمشاهد السردية المتتابعة.
هكذا هي بنية الرواية التي تتخللها أحداث اجتماعية، وعاطفية رومانتيكية وواقعية قدمتها الروائية عائشة المحمود بشكل تقني محكم سواء على مستوى جماليات السرد وتعدد مستوياته أم على مستوى البنية الروائية وحركتها الفعالة الجياشة.
تذكر.. استرجاع.. وتخيل:
جاء الفصل الأول بعنوان:"شهقة بداية"وتضمن مجموعة من العناوين الداخلية التي تومئ إلى ولادة فيصل، وتنتقل إلى حدث الغزو 1990 ثم تعود للبدء مرة ثانية لتسلسل التاريخي لتحولات فيصل وتحولات المجتمع، وجاء السرد الأول عبر ضمير المتكلم، ثم انتقل بعد ذلك إلى ضمير الغياب حتى نهاية الرواية.
واستهل هذا الفصل بعنوان: "مدينة قاصية" بهذا المشهد المسبوق بتاريخ ( يوليو 1990): "هل حبك لمكان ينبع من انتمائك إليه؟ أم يرجع لذاك الشعور الغريب الكامن في تلك البقعة الخفية من روحك التي انكسرت بمرور الزمن وانتقالات الأيام فغدت رؤية مشطورة لصورة مكسورة الحواف؟ وهل يتأثر حب المكان بوقع ذلك الإحساس المؤذي؟ نما هذا التساؤل الغريبُ الراجفُ في جوفي كأنه جاء من العدم، لم أتوقع أن أقع في مصيدة القلق هذه. كان الصحافي الشاب بغترته النشّاة وشاربه الخفيف ممسكا بجهاز التسجيل المربع، مقربا إياه مني، مطلقا سؤاله العادي: "هل تحب الفريج؟"/ ص 9
ومع هذا البدء الزمكاني الذي تتحدد فيه الشخصية وأفق الرواية المبدئي، وتحديد ملامح تحولات الكويت بانتشار البنايات العالية والشوارع المرتبة، والحياة الثرية بعد الطفرة النفطية، "كم تغير شكل الكويت، تحول بشكل لم أكن أظن يوما أنه ممكن، ملامح المدينة وتضاريسها التي تعرفها عيني جيدا تبدلت... معالم الحداثة الملتبسة حاضرة بوضوح".
تقلنا الرواية بعد ذلك في المشهد التالي من الفصل الأول إلى عنوان آخر: "سواد" مؤرخ بـ"يوم الخميس 2 أغسطس 1990. السابعة والنصف صباحا". هو تاريخ مأساوي درامي لا ينسى، ففيما كان المشهد الأول من الفصل الأول (ص. 9-18) يعبر عن المكان وتحولاته صوب التحديث العمراني والحداثة المكانية المهندسة، وتحولات المجتمع الكويتي نفسه، جاء هذا المشهد (سواد) ليبين الصورة النقيض مع الغزو: "قبل أن أصعد إلى السيارة ألمح أسرابا سوداء لما يشبه الجيوش، وافرادها يتناثرون في أبعاد المكان... تلك الافواج القاتمة تتناثر في المدى ترافقها آليات ثقيلة للمرة الأولى تشاهد في تلك المواقع... دوي متكرر كأنها انفجارات متوالية هؤلاء الأفراد ببزاتهم العسكرية المرقطة لم يكونوا جيش الكويت كما كنت أتوقع "/ ص 23-24.
هكذا البداية كانت، ومن بعدها تبدأ بداية تذكر وعودة واسترجاع للحياة الأولى من 1948 بمشاهد تبدأ بـ"وجاء فيصل.. البداية – مايو 1948". ثم تتوالى العناوين داخل الفصل: (مياه وغبش شتاء 1954/ أن تعرف أكتوبر 1956/ فُرُجٌ صغيرة الأول من يناير 1961).
ومثلما نلحظ هنا أن التواريخ لها دلالاتها وإشاراتها، ترتبط بالتاريخ العربي نفسه، وبالعدوان الثلاثي على مصر، وبتاريخ استقلال الكويت عن الحماية البريطانية.
تواريخ
إن النقطة الجوهرية في هذه الاختيارات أن الرواية تومئ أولا لتاريخ مأساوي، تاريخ النكبة، لتصل بعد ذلك إلى تواريخ مبهجة كاستقلال الكويت 1961 وحرب أكتوبر 1973. ثم إلى تواريخ مأساوية كنكسة العام 1967 في الفصول التالية، ثم نكبة غزو الكويت، وهو ربط له مبرراته التي يستوجبها التنقل من مكان لآخر ما بين لبنان ومصر وسوريا ثم فرنسا.
ويحتل المكان ورصده وبيان جمالياته جانبا كبيرا في الرواية، لتتآزر مع الرؤية التاريخية الزمنية لها، والمكان في هذه الرواية من العناصر البارزة التي تحتاج إلى قراءة مثلى تبين تحولاته وجمالياته وشاعرية وصفه، فضلا على وصف الجلسات العائلية وحضور الجدة مزنة بالبيت، وأيضا وصف الديوانيات والجلسات والحوارات بين مختلف شخصيات الرواية التي تعبّر عن المجتمع الكويتي وتحولاته.
ولعل ذلك يعزى إلى هذه الحالة الحميمية بين بطل الرواية والأمكنة والبيوت والمنازل والوطن الكويتي نفسه: "علاقتي بالدروب والنوافذ وأشكال البيوت وحتى سكانها الذين تتطابق ملامحهم كأنهم واحد مجهول لا يحمل أي مغايرة، علاقة متوطنة تغور عميقا في روحي لتتركني أبدًا معلقًا بها غير قادر على الإفلات من أسر انتمائي إليها "/ ص.ص 53-54"
أفق خرافي
مع أن البنية الروائية التي تبنتها الروائية تمثلت في طغيان البعد التاريخي على حركة السرد بالرواية، إلا أن الكاتبة ابتكرت شخصية إشكالية بالرواية تمثلت في غنيمة وعباءتها، التي لا يغيب عنها الهاجس الخرافي.
حيث أضفت الروائية عائشة المحمود على روايتها بعدًا خرافيًّا أسطوريًّا، تمثل في وجود شخصية شعبية، ربما فولكلورية، أو تم ترميزها هي شخصية (غنيمة) التي ترتدي عباءة سوداء، وتظهر دائما في مواقف حاسمة يمر بها فيصل عبر الرواية، تظهر كهاجس مخايل، أو كصورة متخيلة، مرعبة، منذ رآها صغيرًا تعبر بالشارع أمامه والأطفال.
إن أسطرة هذه الشخصية أعطى لبعض المشاهد الرواية بعدا تخييليا، ربما يلزم تأويله بأن هذه الشخصية هي صوت الضمير الإنساني الخفي، الذي يتجلى حيال الشخصية في مشاهد تتطلب تحريك الوعي صوب تفكير ما، أو رؤية ما.
إن شخصية غنيمة التي تتجلى لدى (فيصل) بعباءتها دائما، هي شخصية غرائبية، قد تأتي في مواقف ربما تكون خارجة عن السياق، سياق شخصية فيصل، وهو ما يجعلها تأتي بصورة مرعبة يتخوفها البطل، ويتجشم عناء ظهورها المتخيل، وهو ما حدث في مواقف كثيرة بالرواية، عدا موقف وحيد ظهرت فيه مبتسمة راضية في صفحة (208) في حفل عشاء مع أصدقائه: بدر وعثمان وجوزيف بمناسبة العام الجديد بداية تسعينيات القرن العشرين، حيث تخيلها بابتسامة مطمئنة تسكن وجهها.
وقد بدأ ظهور هذه الشخصية ومخايلتها لفيصل أول مرة في صفحة (55) من الرواية في هذا المشهد: "كنتُ ألتفت نحو السكة التي بدأ يغشاها سحاب رماديّ ثقيل يحجب الشمس، ويُظلم السماء، عندما رأيتها شعرا أسود مجعدا ككتلة واحدة صلبة، لم يقهرها مشط من قبل، سمرة غابشة تكللها دكنة العبسن عباءة منسدلة من الرأس لا تحرص على إغلاقها كما تفعل أمي، بل تركتها منفتحة تفصح عن ثوبها القصير المشجّر بزهور ملونة، صرخت فينا وعيناها مركزتان عليّ: (شمقعدكم برا؟ يلله روحوا بيوتكم). صرختها أفزعتني لذت بعبدالعزيز، التصقت به ألتمس أمنا لازمًا لم يتأثر لا هو ولا سعود. أنا فقط افزعني مرورها إذ جاوزتنا، كانت تلك المرة الأولى التي أراها فيها". بعدها طمأنته أمه واصفة إياها بأنها "من أهل الله ما تخرع، ما تسوّي شي".
واستمر فيصل يتخيّل هذه الشخصية التي حملت الرواية اسمها (عباءة غنيمة) في مشاهد كثيرة في الصفحات: 92/101/102/140/141/183/ 208/ 223 وفي كل المشاهد التي يتخيلها فيصل فيها تحضر حزينة مكتئبة حتى المشهد الأخير بالرواية مشهد موت فيصل.
فضاء رومانتيكي
على الرغم من أن الرؤية التاريخية والمكانية والواقعية هيمنت بشكل أو بآخر على توجه الخطاب الروائي في: "عباءة غنيمة"، إلا أن الرواية لم تخلُ من وجهة رومانتيكية شكلت فضاء آخر موازيا في الرواية، حيث هذه العلاقات العاطفية التي جرت بين بعض شخصيات الرواية (بدور) شقيقة فيصل و(فهد) و(غازي) والد فيصل و(أمينة) و(سها) أخته غير الشقيقة المتمردة المفتونة بكل ما هو فلسطيني، تاريخا، وجغرافيا، وتقاليدا، وشعرا ونثرا، و(يامن). وهي علاقات صورتها مشاهد متعددة بالرواية، وانتهت جميعا بالارتباط والزواج، مع هروب (سها) مع حبيبها إلى أميركا والزواج هناك.
رؤى درامية
وحملت الرواية عدة رؤى درامية تتراوح بين الرفض والقبول والصراع.
على أن القصة الرومانتيكية العاطفية الكبيرة بالرواية هي قصة الحب التي وقعت بين (فيصل) و(لين) أستاذته السورية بالجامعة البيروتية، استحوذت على معظم مشاهد الرواية في الفصلين الثاني والثالث، وحركت أسئلة سردية كثيرة بين (فيصل) الملتزم نوعا ما، و(لين) المتحررة التي تنتسب لعائلة سياسية سورية، لم تكشف عنها الرواية ولكن تركتها محطا للتخمين والتأويل القارئ: "لم أكن يوما كائنا قابلا أو حتى تابعا لأحد، إلا أن الأمر مع لين مختلف، فسطوة العشق تأخذ برأسي تدوخني وتسلب من كل الأسلحة التي أملكها ولا أملكها.
مر على علاقتي بها عامان وبضعة أشهر / ص 139 ثم انتهت العلاقة نهائيا باختفاء (لين) الغرائبي، حيث لم تظهر تاليا بأي مشهد.
شاعرية البدايات
لقد قدمت الرواية فضاء سرديًّا رحبًا، لم تقتصر فيه الكاتبة على تناول الأفق المحلي لحركة الشخصيات وحضورها، وتحولات المجتمع الكويتي، في رواية تحتفي بالمكان وسيرة المكان وسيرة شخصياته، وتحتفي ببعض الأعماق الزمانية، لكنها وسعت من مدارات الكتابة، لتتناول الرواية مشاهد من فلسطين وبيروت والقاهرة واللاذقية وباريس.
هذا التوسيع من الأفق الزمكاني أثرى الرواية، وقدم لها فضاءات من التعبير والوصف والسرد الكثيف الذي قدمته الكاتبة بمهارة وإتقان. خاصة وأن بدايات الفصول وبدايات المشاهد السردية تحلّت بلغة شاعرية كبيرة، شكلت البنى الوصفية التي انطوت على رموز وأسئلة وعبارات لها إشراقاتها الدالة، تجلت أكثر في نهايات الرواية وبحث (فيصل) عن كينونة الذات بالموت عبر قتال الغزاة، ثم بهذه الهواجس السوريالية التي صاحب مشهد الموت من أجل العثور على حياته وكينونته بعد فقدان الأمل بالحب، وفقدان الآمال والطموحات والأحلام.