: آخر تحديث

لعنة الرجل المعضال

27
27
39
مواضيع ذات صلة

تمتْ تعبئتُنا في الجامعة لحضور أمسية قصصية للدكتور، الأكاديمي الذي قرر، ونحن طلابه في السنة الجامعية الأولى، أن نحفظ المعلقات السبع عن ظهر قلب، وقال إنه سيتخذُ خليلا كل من يحفظ الثلاث الأخرى.

بدأتِ الأمسية، في النادي الأدبي، بتقديم لسعادة الدكتور، الذي كان سعيداً على أي حال، ثم بدأ بقراءة قصته الأولى وكانت تدور حول الرجل المعضال وهو يطارد الرجل المهزال. قد يقول البعض منكم إنني أسخر، لكن هذا ما حدث وربّ محمد. 

كانت الدقائق تمر والرجل المعضال يطارد الرجل المهزال، طارده في كل شوارع وحارات وأزقة مدينة مكة. حين تلفّتُ وجدتُ زملائي في شعبة الأدب الجاهلي يتلفتون بدورهم، قلتُ في نفسي: ربما سرت بين الحضور حمى البحث عن الرجل المهزال والمشاركة في مطاردته لإنهاء هذا المهزلة. استمر الدكتور في إلقاء قصّته، حتى بلغ نهايتها: استوقف الرجل المعضالُ الرجلَ المهزال واستخرج من جيبه "قطعة خبز".

انتهت القصة، ثم انتهت الأمسية، ثم انتهت سنوات الدراسة الجامعية وتخرجتُ، كنتُ هارباً طيلة سنوات أربع من الرجل المعضال الذي طاردني في ممرات الجامعة وقاعاتها. نجوتُ بقطعة شهادة لم يستخرجها الرجل المعضال من جيبي، قبضتُ عليها بكل قوتي حتى أوصلتُها سالمة إلى ديوان الخدمة المدنية وحصلتُ على وظيفة، وتلتها قطع خبز استطعت النجاة بها خلال هذه السنوات.

لكنني، وبعد اثنين وثلاثين عاماً من تلك القصة لازلتُ أتذكر تلك الليلة، وتلك المطاردة المحمومة ووجه سعادة الدكتور الذي تفتقت ذهنه عن صراع فنتازي حول قطعة خبز. لم أنسَ ولم أحاول تأويل القصة. بقيتْ كما هي عصية على الفهم وعلى الاستيعاب وعلى أن أرويها لأحد. أردتُ أن أتخلّص منها كما هي، فقد بقيتْ في ذاكرتي بصورتها البدائية: الرجلُ المعضال يركضُ خلف الرجل المهزال!، هكذا بلا مقدمات، وحتى بلا نهاية، ركض مستمر لثلث قرن، ركض يستعصي على التأويل أو الحديث في ضوئه عن دلالات الوجود الجامعي في مدينة مكة تحديدا، ويأبى أن يفسّر الطريقة التي يقفز بها الأساتذة على الكراسي ويتشبثون بها، ثم، وحتى على طريقة شغلهم لزاوية أسبوعية في صحيفة عريقة للحديث عن "المامش" كما يحب العراقيون أن يصفوا اللاشيء.

ثلثُ قرن، تقريباً، تسرّب من بين يديَّ وأنا أتساءل عن العلاقة بين حفظي للمعلقات العشر على يد ذلك الدكتور وبين ما حدث بين الرجل المعضال والرجل المهزال حول قطعة خبز، لكنني أتجنب التأويل، وسأموتُ، ربما، وفي نفسي شيءٌ من تلك المهزلة القديمة، والمستمرة، من يدري!.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات